نبض البلد - البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
ثمة أعوامٌ تُسجّل في ذاكرة البشرية خلّفت جرحًا في الزمن نفسه. عام 536 للميلاد كان أحد تلك الأعوام التي بدت كأنها فصلٌ من نهاية العالم لا مجرّد سنة في تقويمٍ نُسي، بل كان ذلك العام الأسوأ بتاريخ البشرية، حسب وصف العلماء.
يقول المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس "في هذا العام غابت الشمس عن وجه الأرض، وأخذ نهار العالم يبدو كليلٍ دامس، واشتد البرد حتى تجمدت المحاصيل، وجاع البشر، وماتت الأمم". اما المؤرخ الأفسسي، فكتب "أشرقت الشمس كالقمر، بلا شعاع، طوال سنة كاملة". وتصف المصادر المختلفة، من الصين إلى أوروبا عامًا بلا شمس، وثلوجًا في الصيف، ومجاعاتٍ قتلت الملايين. في أوروبا ماتت المحاصيل وانتشرت الأوبئة، وفي الصين حلّ الجفاف والجوع.
لقد كان ذلك العام نقطة مظلمة في مسيرة الحضارة، لم يكن ذلك مجرد اضطراب مناخي عابرًا، بل اختبار وجودي للبشرية كلها، لما أحدثه من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية، عندما رفعت الطبيعة صوتها لتقول إن الحضارة، مهما بلغت من عظمة، تظلّ هشّة أمام قبضة الغبار والرماد.
اما العلم الحديث، فقد كشف أن السبب المحتمل هو ثوران بركاني هائل في أيسلندا أو أمريكا الوسطى، قذف ملايين الأطنان من الرماد إلى الغلاف الجوي فحجب ضوء الشمس، وأدخل الكوكب في الشتاء البركاني. وقد وجدت التحاليل الجيولوجية في غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية رواسب كبريتية هائلة تؤكد تلك الفرضية.
يقول الباحث مايكل مكورميك من جامعة هارفارد "لم يعرف العالم عامًا أسوأ من 536، هو بداية أسوأ عقد في التاريخ للعيش على سطح الأرض". إذ تتابعت الانفجارات البركانية في 540 و547، ما أدى إلى عقدٍ كامل من الظلام والبرد والمجاعة، ثم اجتاح الطاعون (طاعون جستنيان) أوروبا ففتك بنصف سكانها. انهارت الزراعة، وتراجعت التجارة، بدأت موجات الهجرة والاضطراب السياسي في أنحاء العالم القديم، لتقلب موازين الحضارات، وتفككت الإمبراطوريات القديمة، ودخلت أوروبا حرفيًا في "العصور المظلمة".
لم تكن المأساة بيئية فقط، بل اجتماعية وسياسية وفكرية. فقد تراجعت الثقة بالسلطات والإلهة القديمة، وبدأ البشر يبحثون عن تفسيرات روحية جديدة، فكانت تلك الحقبة نقطة تحوّل في الوعي الإنساني، حين اكتشف الإنسان أنه ليس سيد الطبيعة، بل جزء هشّ منها. من رحم تلك الكارثة، بدأت بوادر تحولات فكرية ودينية شكلت ملامح القرون الوسطى اللاحقة.
اليوم، ونحن نعيش في زمنٍ يزداد فيه الاضطراب، يتكرّر السؤال، هل يمكن أن تتكرر مأساة عام 536 في عصرنا الحديث؟ وهل قد يعيدنا حدث طبيعي أو صناعي إلى ذلك الظلام، رغم امتلاكنا للتكنولوجيا والمعرفة؟
بعد أكثر من 15 قرنًا، يعيش الإنسان في عالمٍ متقدّم ظاهريًا، أكثر ترابطًا وهشاشة في آنٍ واحد. اقتصادٌ عالميّ يعتمد على خطوط إمداد عابرة للقارات، وتكنولوجيا تجعل من أي خللٍ صغير أزمةً عالمية كبرى. نظن أننا سيطرنا على الطبيعة، لكننا في الحقيقة نعيد صناعة براكيننا الخاصة، براكين صناعية من الفحم والنفط والغاز تملأ الغلاف الجوي بثاني أكسيد الكربون وتُحدث احتباسًا حراريًا يعيد تشكيل المناخ.
تحذر تقارير ناسا والأمم المتحدة للبيئة من أن الغلاف الجوي بات أكثر حساسية من أي وقت مضى. ويقول عالم المناخ جيمس هانسن إن "ما نفعله بالأرض يشبه إدخالها في تجربة فيزيائية غير معروفة النتائج".
فإذا استمرت الانبعاثات الحالية، سواء بسبب ثورانٍ بركانيّ ضخم أو صدامٍ نوويّ أو هجومٍ إلكتروني يشلّ أنظمة الطاقة والأقمار الصناعية، فقد نصل إلى نقطة اللاعودة، حيث يختل التوازن المناخي وتبدأ سلسلة كوارث حرارية، أعاصير وجفاف ومجاعات عابرة للقارات، تُعيد الحضارة إلى ظلامٍ جديد.
يقول إدغار موران "الخطر ليس في الكارثة نفسها، بل في عمى الإنسان تجاه بوادرها". ويضيف جارد دايموند "المجتمعات الحديثة قادرة على التقدم المذهل، لكنها تمتلك استعدادًا ذاتيًا للسقوط إذا تجاهلت إشارات الإنذار".
لقد استبدلنا بركان 536، ببركانٍ من صنع أيدينا. فالعالم اليوم يملك أكثر من 12 ألف رأس نووي قادر على إبادة الكوكب مراتٍ عدة. وأي مواجهة كبرى مثل صدامٍ بين روسيا والدول الأوروبية، كما تشير دراسة لجامعة برنستون، فأنها كفيلة بقتل أكثر من 90 مليون إنسان خلال الساعات الأولى فقط. فالدخان الناتج سيحجب الشمس، وتنخفض حرارة الأرض أكثر من عشر درجات، وتتوقف الزراعة، وتجف الأنهار، وتتحول المدن الكبرى إلى بؤر إشعاع قاتل، ثم تبدأ المجاعة العالمية. وهو الامر الذي حذر منه الفيزيائي كارل ساغان قائلاً "لن يكون هناك منتصر في حربٍ نووية، بل ناجون يترقبون موتهم في ظلامٍ دامس"، اما هراري فيرى أن "القرن الحادي والعشرين هو الأكثر قدرة على الدمار الذاتي" وان "الحرب النووية لن تنهي التاريخ فحسب، بل ستنهي القدرة على روايته".
الخطر الحقيقي إذن ليس في البراكين أو الصواريخ، بل في الغرور البشري الذي جعل الإنسان يظن أنه فوق القوانين. فالكارثة، كما يقول موران، "ليست حين تقع، بل حين نكفّ عن الإحساس بأنها ممكنة".
وإذا نجت فئة صغيرة من البشر، فستعود إلى حياةٍ بدائية، بلا طاقة ولا دول، يتعلمون من جديد كيف يشعلون النار، وربما سيتمكن أحدهم ان يكتب بعد قرنٍ من الفناء على جدار صخري "هنا انتهى العصر الذهبي للإنسان حين ظنّ أنه إله". عندها، سيُعاد تعريف الإنسان من جديد، هل هو مخلوق قادر على التعلم؟ أم كائن يكرر خطاياه حتى الفناء؟
أما الشرق الأوسط، فسيكون مركز الارتداد الأعنف لأي كارثةٍ كونية أو نووية، لأنه قلب الجغرافيا السياسية للعالم. هنا تتقاطع القارات والممرات البحرية ومخزون الطاقة، وهنا تتجلى الصراعات الدينية والسياسية، وحزام النزاعات الأكثر اشتعالًا على الأرض، ولذلك فإن أي اضطرابٍ عالميّ لن يمرّ دون أن ينبض هذا القلب بالألم أولًا.
وفي حال وقوع تصادمٍ نوويّ أو شتاءٍ كونيّ جديد، سيتأثر الشرق الأوسط بثلاثة مستويات، بيئيًا - سيختفي ضوء الشمس وتعمّ موجات الجفاف، وتموت الزراعة وتشتد الصحراء، واقتصاديًا - ستفقد المنطقة أهميتها كمصدر للطاقة إذا توقفت الصناعات العالمية، ما يعني انهيارًا اقتصاديًا شاملًا، واجتماعيًا وسياسيًا - قد تتفكك الدول إلى كيانات صغيرة تبحث عن البقاء، وتتحول المدن الكبرى إلى بؤر نزوح، وتصبح القيم الإنسانية والدينية آخر ما يتمسّك به الإنسان للبقاء المعنوي.
ومع ذلك، فإن الشرق الأوسط، رغم هشاشته، يحمل قدرة تاريخية على النهوض من الرماد. فهنا وُلدت الديانات، ومن هذه الأرض خرجت الحضارات، وتتبدل بعد كل سقوط. وكأن قدرها أن تموت لتُبعث من جديد. كما يقول توينبي "الشرق الأوسط الأقدر على استعادة التوازن حين يفقده الآخرون، لأنه يحمل في ذاكرته معنى البدايات، وهو المكان الذي تبدأ فيه الإنسانية دورة التاريخ من جديد". فكما خرج النور الأول من هذه الأرض، سيخرج منها أيضًا فجرٌ جديد.
قد تصبح مناطق مثل الأردن ولبنان وسوريا والجزيرة العربية نقاط عبور اللاجئين من أوروبا وآسيا وأفريقيا، ومع جفاف الأنهار وتراجع المتوسط ستنقلب المعادلة الجغرافية، لتتحول الأرض العربية من مهد الحضارة إلى مسرحٍ لرحيلٍ جديد من نوع اخر، رحيل الإنسان عن ذاته وتاريخه.
لقد كان عام 536 جرس إنذارٍ للطبيعة ورسالةً للبشرية تقول إن الحضارة، مهما بلغت قوتها تبقى هشّة. واليوم يتكرر الإنذار، لكن بصوتٍ أعلى، ليس من أعماق الأرض بل من مصانعها ومفاعلاتها وأفكارها المتغطرسة. الفرق بين الماضي والحاضر أن كارثة الأمس كانت قدَرًا، أما كارثة الغد فهي اختيار.
فهل نتعلم من ظلام التاريخ قبل أن نصنع ليلنا الأخير؟ وهكذا تبقى مأساة عام 536 مرآةً لنا جميعًا، بين من يرى فيها درسًا للنجاة، ومن يصرّ على إعادة التاريخ، لكن هذه المرة، بنهايةٍ لا صباح بعدها. فالحضارة الحديثة تشبه ناطحة سحابٍ من زجاجٍ رقيق، براقة من الخارج، لكنها قابلة للانهيار من شرخٍ صغير، وبقاؤها لا يحتاج إلى مزيد من القوة، بل إلى مزيدٍ من الحكمة.