المياه.. هل يضلل منتدى الاستراتيجيات صانع القرار والمواطن؟
غفلة كاملة عن ملف الآبار المرخصة وغير المرخصة
بلاسمة: الورقة تحمل ثغرات معرفية وقانونية قد تضلل الرأي العام
الزعبي: الخطاب الوطني حول المياه بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة
الأنباط – ميناس بني ياسين
انتقد خبراء في الشأن المائي ورقة منتدى الاستراتيجيات الأردني التي صدرت مطلع الشهر الحالي بعنوان "المياه: خيارات الأردن أمام أزمة الإمدادات والاستخدامات"، لافتين إلى أن الورقة يفترض أن تكون خارطة طريق لصانعي القرار والجمهور لكن مراجعة متأنية تكشف تجاهلاً خطيراً للأحواض المائية والآبار المرخصة وغير المرخصة.
ويؤكد الخبراء غياب الاستناد الصريح إلى الإطار التشريعي والدستوري في الورقة، وهذا النقص في المقاربة العلمية والقانونية يرفع راية تحذر من أن توصيات الورقة قد تكون مضللة إذا بُنيت على تصوّر مبتور للواقع المائي حسب خبراء.
الورقة خرجت لتقدّم حُجّة مبسطة بأن المشكلة مائية بحتة (ندرة الموارد)، لكنها تغاضت عن عناصر حاسمة لإدارة الموارد مثل الأحواض المائية التي تُشكّل الإطار الهيدرولوجي، ملف الآبار (المرخّصة وغير المرخّصة)، والإطار القانوني (قوانين تنظيم الآبار وإدارة الموارد)، وإهمال هذه المحاور يعني توصيات فراغية غير قابلة للتطبيق وقد تُخفف من مسؤولية الجهات المعنية بدلاً من أن تساهم في حل الأزمة.
وفي حين أن الأردن مصنّف من أكثر دول العالم شحّاً في المياه؛ والدولة تمتلك إطاراً تشريعياً لتنظيم الموارد ووجود استراتيجية وطنية للمياه، فإن الورقة لم تحمل في طياتها ذلك، ما يعني الخلوّ من التوافق وما ينقص من قيمة الورقة.
أمور لم تذكرها الورقة .. لماذا تُعد ثغرات قاتلة؟
"الأنباط" قامت بتحليل الورقة ودرستها مع خبراء ومختصي مياه، ليتبين أن الورقة تجاهلت الأحواض المائية الاثني عشر والتي هي الوحدات الإدارية والهيدرولوجية الأساسية لإدارة الموارد؛ لكل حوض خصائصه من حيث التغذية والاستنزاف وإمكانية الاستعادة وتجاهلها يعني توصياتٍ عامة بعيدة عن التطبيق الحوضي.
إضافة إلى غفلة كاملة عن ملف الآبار المرخصة وغير المرخصة لا سيما وأن آلاف الآبار المرخّصة تتم متابعتها، لكن آلافاً أخرى حفرت عشوائياً وتسبّب استنزافاً خطيراً لمخزون المياه الجوفية أي أن أي ورقة عن المياه تُغفل هذا الملف تفقد القدرة على تقديم حلول حقيقية.
وزد عليها غياب الإحالة إلى القانون والدستور قانون المياه/سلطة المياه (18/1988) وأنظمة الآبار والتعليمات التنفيذية والدستور (المادة 117) ليست ثانوية؛ هي الإطار الذي يحدّد من له صلاحية من له حقّ، وكيف تُحمى الموارد وعدم الاستناد لها يُخرج الورقة من حلبة السياسات الرسمية حسبما أكد خبراء.
الصورة الواقعية وتجاهل الأحواض والآبار في الورقة
وفي هذا السياق، يرى خبير المياه والطاقة فراس بلاسمة أن الورقة لم تقدم صورة واقعية دقيقة عن الوضع المائي في الأردن، إذ اقتصرت في طرحها على جانب "ندرة الموارد الطبيعية”، متجاهلة الجوانب المؤسسية والقانونية والتقنية في إدارة المياه. ويؤكد بلاسمة أن أزمة المياه في الأردن لا تقتصر على الندرة الطبيعية فحسب، بل تمتد إلى غياب الإدارة المتكاملة للأحواض والآبار وشبكات التوزيع، وهي قضايا لم تتناولها الورقة على الإطلاق.
وأشار إلى أن الأحواض المائية الاثني عشر تمثل الإطار الجغرافي والهيدرولوجي الأساسي لإدارة الموارد المائية، وإن تجاهلها أو عدم الإشارة إليها في الورقة يُعد تبسيطًا مخلًا لطبيعة الأزمة، ويؤدي إلى طرح توصيات سطحية تفتقر إلى إمكانية التطبيق، نظرًا لخصوصية كل حوض من حيث معدلات التغذية، والاستنزاف، وإعادة الشحن.
وأضاف أن تجاهل مسألة الآبار يشكل قصورًا تحليليًا بالغ الخطورة، لاسيما أن الآبار المرخصة والخاضعة لإشراف الدولة تُعد جزءًا من إدارة الموارد المنظمة، بينما تمثل الآبار غير المرخصة مصدرًا رئيسيًا للاستنزاف الجائر الذي يُهدد المخزون الجوفي ويشكل خطرًا وجوديًا عليه. ويؤكد أن غياب الإشارة إلى هذا الملف المحوري يفقد الورقة الكثير من المصداقية، لأنها تغض الطرف عن أحد أخطر عناصر الأزمة المائية في البلاد.
وفيما يتعلق بالإطار القانوني، بيّن بلاسمة أن الورقة لم تستند إلى قانون المياه رقم (18) لسنة 1988 أو إلى الأنظمة والتشريعات الناظمة للقطاع، وهو ما يُضعف جديتها من الناحية القانونية. وأوضح أن أي تحليل موضوعي للموارد المائية يجب أن يرتكز على هذا القانون، بالإضافة إلى تشريعات تنظيم استخدام الآبار الجوفية، معتبرًا أن غياب هذه المرجعيات يُفقد الورقة طابعها السياساتي، ويجعلها أقرب إلى خطاب إعلامي عام لا يرقى إلى مستوى وثيقة سياساتية رصينة.
كما أشار إلى أن المادة (117) من الدستور الأردني تنص على أن الموارد الطبيعية تُعتبر ملكًا للدولة ويجب إدارتها بما يحقق المصلحة الوطنية، ومن هنا فإن أي تحليل للوضع المائي يجب أن يُبنى على هذا المبدأ الدستوري، إلى جانب الاستناد الصارم إلى قانون المياه وأنظمة الآبار، وذلك لضمان حماية حقوق الدولة والمجتمع. وأكد أن تجاهل هذا الإطار القانوني يفتح الباب أمام طرح غير منضبط ويضعف الأسس الدستورية لتحليل الأزمات.
وعن مدى موثوقية توصيات الورقة، يرى بلاسمة أنه لا يمكن اعتبارها موثوقة رغم ما قد تبدو عليه من صحة مبدئية، لأنها تفتقر إلى السياق الواقعي والإطار القانوني اللازم. وأوضح أن غياب البيانات الأساسية المرتبطة بالأحواض والآبار، فضلاً عن إغفال التشريعات الناظمة، يجعل التوصيات نظرية الطابع ولا يمكن البناء عليها في صياغة سياسات فاعلة.
وفيما يتعلق بالتأثيرات المجتمعية والمؤسسية، أكد بلاسمة أن مثل هذه الدراسات قد تُضلل صانع القرار من خلال تقديم معطيات ناقصة تُفضي إلى تبني سياسات غير دقيقة. كما أنها تُضلل الرأي العام والمواطنين بتكوين صورة غير صحيحة عن القدرات المائية الوطنية، وهو ما يؤدي إلى إضعاف ثقة المجتمع بالمؤسسات الفكرية والبحثية، ويُعمق الفجوة بين المواطن وصانع القرار نتيجة تضارب الحقائق والمعطيات.
واختتم بلاسمة بدعوة واضحة إلى ضرورة تبني "النهج الحوضي" كمنهجية أساسية في إدارة الموارد المائية، مشددًا على أهمية إدراج بيانات دقيقة وشاملة عن الآبار، سواء المرخصة أو غير المرخصة، والالتزام الصارم بقانون المياه والدستور. كما دعا إلى إشراك خبراء وطنيين من الجامعات وسلطة المياه ووزارة المياه والري في إعداد الدراسات والسياسات، بالإضافة إلى إخضاع هذه الأوراق لمراجعة علمية وقانونية مستقلة قبل نشرها لضمان جودتها ودقتها.
النهج سلبي.. وضرورة إعادة صياغة الخطابات
وفي السياق ذاته، أكدت خبيرة المياه وأمين عام وزارة المياه سابقًا، ميسون الزعبي، أن تجاهل أحواض المياه الجوفية والآبار، وخاصة غير المرخصة منها، يُعدّ نهجًا سلبيًا للغاية وله عواقب وخيمة على موارد المياه واستقرار المباني والنظام البيئي بأكمله. وشددت على أن هذه الآبار تُشكّل مصادر مائية حيوية، وأن غياب إدارتها السليمة يؤدي إلى استنزاف غير مستدام للمياه الجوفية، وانكماش التربة، وهبوط الأساسات، والانهيارات الأرضية، فضلًا عن زيادة مخاطر تملّح التربة.
وبيّنت أن هناك آلاف الآبار العشوائية التي حُفرت دون ترخيص أو رقابة، رغم أن المياه الجوفية تُعد المصدر الطبيعي الوحيد للمياه في الأردن، وكان يفترض الحفاظ عليها كأولوية وطنية. وأكدت الزعبي أن السبب الرئيس في استنزاف هذا المخزون المتجدد ببطء، والذي تراكم على مدى آلاف السنين، يعود إلى الحفر غير المنظم لآبار في المزارع، دون إذن أو إشراف من أي جهة رسمية. "الكل يحفر بئرًا لأغراض زراعية أو غيرها دون رقابة حقيقية، وهذا يُشكل استنزافًا مباشرًا وخطرًا بالغًا على الأمن المائي"، على حد تعبيرها.
وأوضحت الزعبي أن الخطاب الوطني حول المياه بحاجة إلى إعادة صياغة شاملة، بحيث يركّز على الشفافية في عرض التحديات، بما في ذلك ندرة المياه، والتغيرات المناخية، وسوء الإدارة. وفي الوقت ذاته، يجب إبراز القدرات الوطنية التي يمكن البناء عليها مثل تحسين البنية التحتية، وتوسيع نطاق إعادة استخدام المياه، وتطوير استراتيجيات مبتكرة تشمل تقنيات حديثة، وجهود الحفاظ على الموارد، إلى جانب تعزيز الوعي المجتمعي وإشراك جميع القطاعات ذات العلاقة.
تأثير هذه الأوراق على ثقة المجتمع
وأشارت الزعبي إلى أن من يتناولون ملف المياه من زاوية الفشل الكامل للحكومات في إدارة هذا القطاع، دون الاعتراف بإنجازاتها وقصص نجاحها، يُقوّضون الثقة العامة، ما يؤثر سلبًا على صورة الدولة ومؤسساتها. وأوضحت أن ذلك ينعكس بشكل مباشر على ثقة المواطنين بقدرة الحكومة على تلبية احتياجاتهم الأساسية، مما يكرّس مشاعر خيبة الأمل، ويُعزز عدم الرضا عن الأداء الحكومي، رغم أن المرحلة تتطلب تواصلًا فعّالًا ومقنعًا مع المواطنين لإعادة بناء هذه الثقة على أسس واقعية.
وصف الأردن بـ"ثاني أفقر دولة مائيًا"
وأكدت الزعبي أن توصيف الأردن بأنه من "أفقر دول العالم مائيًا" دقيق من الناحية العلمية والعملية، ويتوافق مع تصنيفات الأمم المتحدة التي تشير إلى أن حصة الفرد الأردني من المياه تقل كثيرًا عن خط الفقر المائي البالغ 500 متر مكعب سنويًا، حيث تبلغ حصة الفرد حاليًا حوالي 61 مترًا مكعبًا فقط في السنة.
وأضافت أن إدارة قطاع المياه في الأردن يجب أن تُبنى على الربط المتكامل بين المياه، والطاقة، والغذاء، وفقًا للمنهجية العالمية المعروفة بـWEFE (Water-Energy-Food-Ecosystem Nexus)، والتي تُعد إطارًا أساسيًا لضمان الأمن المائي والغذائي وأمن الطاقة. واعتبرت أن تجاهل هذا الترابط المنهجي في الورقة محل النقاش، يُضعف مصداقيتها، ويجعلها غير متوائمة مع التوجهات العالمية المعتمدة في التخطيط المائي.
الفرص المتاحة للأردن رغم الأزمة
ورغم الصورة الصعبة، أشارت الزعبي إلى أن الأردن يمتلك فرصًا حقيقية لتحويل التحدي إلى ميزة، من خلال الابتكار والشراكات الدولية، لا سيما في مجالات تقليل فاقد المياه، وتوظيف أنظمة ذكية لرصد التسربات، وتوقيع عقود مبنية على الأداء مع القطاع الخاص، وإدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة المياه، بما يندرج ضمن ما يُعرف بـ "المياه الرقمية". ولفتت إلى أن هذه خطوات عملية يمكن أن تسهم في تحسين كفاءة القطاع. كما أن الاستراتيجية الوطنية للمياه 2023–2040 تُشكّل خارطة طريق قابلة للتطبيق، إذا ما تم الالتزام بها ومتابعتها بجدية.
نقد لورقة منتدى الاستراتيجيات
وفي نقد مباشر لورقة منتدى الاستراتيجيات، قالت الزعبي إن الأردن يواجه أزمة مائية حقيقية، وفقًا للاستراتيجية الوطنية للموارد المائية والوثائق الدولية، لكن معالجة هذه الأزمة لا تكون عبر أوراق تحليلية تُبسّط المشهد وتُهمل الجوانب الحوضية والقانونية والإجرائية.
وأكدت أن الورقة قدّمت قراءة ناقصة بحسب تحليل معمّق، وأن الخلل في هذه الورقة لا يمكن اختزاله في مجرد "أخطاء تقنية"، بل يحمل خطرًا كبيرًا على مستوى صناعة القرار والسياسات العامة، إذا ما تم اعتماد توصياتها كما هي، دون مراجعة.
وشددت على أن المطلوب حاليًا هو مراجعة فنية وقانونية مستقلة لهذه الورقة، واعتماد "النهج الحوضي" كأساس لأي تحليل أو سياسة مائية، مع ضرورة نشر البيانات الخام التي استُند إليها في إعداد الورقة، وإعادة صياغة التوصيات بالشراكة مع سلطة المياه، والجهات القانونية، والخبراء الميدانيين المختصين.