الضمان الاجتماعي فرصة لحوار وطني يعيد تقييم الأولويات

نبض البلد -

بقلم: حمادة أبو نجمة

أثار التصريح الأخير لوزير العمل ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الضمان الاجتماعي اهتماماً واسعاً لدى المختصين، حين أكد أن الحكومة لا تتجه إلى إلغاء التقاعد المبكر بل إلى ضبطه بحيث يصبح استثناءً وليس الأصل، وأن أي تعديل على قانون الضمان لن يطرح قبل إعلان الدراسة الاكتوارية والاستماع إلى مختلف الأطراف.
التوجه الذي عبر عنه الوزير يعكس إدراكاً لأهمية الحوار المؤسسي حول مستقبل المنظومة التأمينية إلا أنه يفتح الباب نحو نقاش جوهري يتجاوز موضوع "ضبط التقاعد المبكر” إلى مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤطر موقع الضمان الاجتماعي في بنية الحماية الاجتماعية.
ومن إيجابيات هذا التوجه الحكومي أنه يوفر مساحة حقيقية لفتح حوار وطني مسبق قبل صياغة أي نصوص أو بنود محددة، فبدلاً من الدخول في جدل الدفاع عن مواد قانونية أو رفضها سيسمح هذا النهج بتقييم واقعي وهادئ لواقع الضمان الاجتماعي وبحث حلول متعددة قد تكون تشريعية أو غير تشريعية وقد تتعلق بالتقاعد المبكر وقد لا تتعلق به على الإطلاق.
فالمسألة الأساسية ليست موضوع التقاعد المبكر بحد ذاته بقدر ما هي ضمان مستقبل الضمان الاجتماعي وديمومته وتحديد مكامن الخلل الحقيقية ووضع سياسات إصلاحية تبنى على الأدلة لا على الانطباعات، وهنا تبرز جملة من القضايا التي طالما تحدثنا عنها وتمثل حلولاً أعمق وأكثر تأثيراً على استدامة الضمان من مجرد تشديد شروط التقاعد المبكر.
فالتقاعد المبكر في جوهره كان وما يزال صمام أمان لكثير من الأسر خصوصاً لمن يعملون في ظروف صعبة أو في مهن مرهقة أو لمن يواجهون مسؤوليات اجتماعية تثقل كاهلهم، ولذلك فإن أي تعديل محتمل يجب أن يبقى محكوماً بمبادئ العدالة وضمان الحقوق المكتسبة.
وأولى هذه المبادئ أن لا يمس أي تعديل المشتركين الحاليين الذين بنوا استقرارهم وحياتهم المهنية على قواعد القانون النافذ، فالتعديل الذي جرى عام 2019 التزم بهذه القاعدة حين اقتصر على المشتركين الجدد، وأي تغيير بأثر رجعي اليوم سيضرب الثقة بالنظام التأميني وهذه الثقة هي رأس مال الضمان الأول قبل الاستثمارات والأرصدة المالية.
كما أن حق العاملين في المهن الخطرة بالتقاعد المبكر يجب أن يبقى ثابتاً وغير قابل للمساومة، فالمعادلة هنا ليست مالية فقط بل إنسانية وأخلاقية ترتبط بالسلامة والصحة المهنية ولا أعتقد أن الحكومة تفكر بالمساس بها، غير أن الأمر يستدعي تحديث قائمة المهن الخطرة على أسس علمية وبشكل دوري لضمان عدالة شمولها.
وإلى جانب ذلك هناك فئات ذات مسؤوليات اجتماعية وعائلية كبيرة تحتاج إلى نماذج أكثر مرونة في احتساب شروط التقاعد بما يتوافق مع واقعها الحياتي، فالحماية الاجتماعية لا ينبغي أن تختزل في حسابات اكتوارية فقط بل أن تعكس واقع الناس وظروفهم.
لكن أي إصلاح حقيقي لن يكون متوازناً إن لم يعالج أحد أبرز مسببات التقاعد المبكر القسري وهي قرارات الإحالة على التقاعد المبكر التي تتم في أغلب الحالات بقرار إنهاء الخدمة من صاحب العمل وليس بإرادة العامل.
فعلى مدى السنوات الماضية كان القطاع العام أكبر مستخدم لهذه الأداة لأغراض إدارية، فتحمل صندوق الضمان كلفة قرارات لم يتخذها المشتركون، وعليه فمعالجة هذا الخلل تبدأ من قاعدة بسيطة تقوم على أن من يتخذ القرار يتحمل كلفته بدلا من أن تتحمل أموال المؤمن عليهم هذه الكلفة.
كما لا يمكن مناقشة التقاعد المبكر بمعزل عن ثغرات قانون العمل التي سمحت باستخدام المادتين 23 و31 بطريقة تفتح الباب أمام إنهاء خدمات العاملين الأكبر سناً دون حماية فعلية مما يدفعهم قسراً نحو التقاعد المبكر، وإصلاح الضمان بمعزل عن إصلاح بيئة العمل من هذا الجانب لن يؤدي إلى أي استدامة حقيقية، بل سيظل يعالج النتائج لا الأسباب.
وفي نفس الوقت فإن تعزيز الشمول التأميني ومحاربة التهرب يمثلان الطريق الأكثر جدوى وواقعية لاستدامة الضمان فاليوم هناك ما يقرب من نصف قوة العمل في الأردن ما زال خارج مظلة الضمان، وأي زيادة جادة في الشمول ستنعكس فوراً على استدامة الصندوق دون المساس بحقوق المشتركين، كما أن تحسين سياسات التفتيش والتسجيل والأجور الفعلية يشكل مدخلاً إصلاحياً أكثر تأثيراً وفعالية من المساس بحق التأمينات.
إن إصلاح الضمان الاجتماعي لا يجب أن يتحول إلى معركة بين الاستدامة المالية والحقوق الاجتماعية، فالأصل أن يمثل إطاراً للبحث عن توازن ذكي ومسؤول بينهما، فنحن اليوم أمام فرصة نادرة لبناء توافق وطني حول مستقبل الحماية الاجتماعية، وقد يكون تصريح الوزير بداية مسار إيجابي لكن نجاحه يتوقف على مدى شمولية الحوار وعمق مقاربته وقدرته على إنتاج رؤية وطنية تشاركية توازن بين احتياجات الناس وضرورات واستدامة النظام التأميني.