هل فقدت الزراعة الأردنية بوصلتها؟

نبض البلد -

 المصري يحلل فوضى الإنتاج وأثرها على المزارع والمستهلك

ضرورة إطلاق خطة وطنية للإنتاج الزراعي

جذور الفوضى متعددة وأبرزها غياب التخطيط للإنتاج الزراعي

الأنباط – ميناس بني ياسين

لم يعد القطاع الزراعي في الأردن مجرد مصدر للغذاء، بل تحوّل إلى مرآة تعكس حالة من الفوضى التنظيمية وغياب التخطيط، وهي فوضى انعكست سلبًا على المزارعين والمستهلكين على حد سواء. فالمزارع الأردني يواجه تحديات متكررة من تقلبات السوق وفائض الإنتاج الذي يجرّه إلى خسائر مالية فادحة، فيما يجد المستهلك نفسه عالقًا في حلقة مفرغة من عدم استقرار الأسعار وتذبذب جودة المنتجات.
هذه الأزمة الممتدة منذ سنوات ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة غياب التخطيط المسبق، وضعف دور المؤسسات الزراعية، وافتقار القطاع لقاعدة بيانات دقيقة تحدد حجم واحتياجات السوق الفعلية.
وفي حوار خاص، يسلط وزير الزراعة الأسبق سعيد المصري الضوء على الأسباب الجذرية لهذه الإشكالية، ويعرض رؤيته حول كيفية الانتقال من فوضى الإنتاج إلى منظومة زراعية منظمة توازن بين مصلحة المزارع وضمان الأمن الغذائي للمستهلك.

أسباب الفوضى وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية
يقول المصري إن جذور الفوضى متعددة، أبرزها غياب التخطيط المركزي المسبق لكميات وأنواع المحاصيل. فالمزارعون – وفق قوله – يعتمدون غالبًا على اجتهاداتهم الفردية في اختيار ما يزرعونه، بناءً على ما يرونه مربحًا في لحظة معينة، من دون مراعاة لحاجات السوق الفعلية.
ويضيف أن ضعف المؤسسات الزراعية في مجالات الإرشاد والتنظيم، إلى جانب غياب قاعدة بيانات دقيقة للسوق المحلي وأسواق التصدير، عمّق المشكلة. كما أن عدم وجود آليات واضحة للعقود الزراعية ترك القطاع رهينة لقرارات فردية غير منسقة.
ويشير المصري إلى أن سياسات المياه ساهمت أيضًا في تفاقم الفوضى؛ فندرة المياه دفعت المزارعين إلى التوجه نحو محاصيل أقل استهلاكًا للمياه، لكن من دون توافق مع أولويات السوق، فيما أدى تسعير المياه غير المتوازن إلى تحميل بعض المزارعين كُلفًا إضافية أجبرتهم على التخلي عن محاصيل استراتيجية. والنتيجة – بحسب المصري – كانت توزيعًا غير مدروس للموارد المائية على محاصيل لا ترتبط مباشرة بالأمن الغذائي الوطني.

خسائر فادحة وتأثير مباشر على المستهلك
ويبيّن المصري أن غياب التخطيط الزراعي ألحق خسائر جسيمة بالمزارع الأردني، تتجلى في ثلاثة مستويات رئيسية: ماليًا: يتكبد المزارعون خسائر فادحة عند فائض الإنتاج بسبب الانخفاض الحاد في الأسعار، أو عند ارتفاع كلف الإنتاج مع صعوبة تصريف المحاصيل. وإنتاجيًا: يؤدي سوء التخزين وضعف القدرات التسويقية إلى هدر كميات ضخمة من المحاصيل الزراعية. واجتماعيًا: تتراجع دخول الأسر الزراعية وتزداد مديونية المزارعين، ما يدفع بعضهم إلى هجر المزارع أو التخلي عن الزراعة كمصدر رئيسي للرزق.
ولا تقف تداعيات هذه الفوضى عند المزارع وحده، بل تمتد لتصيب المستهلك بشكل مباشر. ففي حالات فائض الإنتاج الكبير، تنخفض الأسعار بشكل حاد، لكن على حساب الجودة نتيجة تكدس المنتجات وقصر فترة صلاحيتها. وفي المقابل، عند نقص المعروض أو وجود اختناقات تسويقية، ترتفع الأسعار لتثقل كاهل المستهلك وتقل فرص الحصول على منتجات طازجة بأسعار مناسبة.
ويؤكد المصري أن السوق الأردني يخضع بدرجة كبيرة لمزاجية العرض والطلب فقط، من دون تدخل منظم يوازن بين الطرفين. فالجهود الحكومية والمؤسسية لتنظيم السوق – بحسب وصفه – تبقى محدودة وتأتي غالبًا كرد فعل بعد وقوع الأزمات لا قبلها، ما يجعل القطاع الزراعي عرضة لموجات عشوائية متكررة.

الحل يكمن في خطة وطنية متكاملة
ولمواجهة هذه الأزمة، يطرح المصري حلولًا عملية تقوم على إعداد "خطة وطنية للإنتاج الزراعي” تتضمن ثلاثة محاور رئيسية اولها إنشاء قاعدة بيانات دقيقة تغطي احتياجات السوق المحلي والإقليمي، وتحدد الكميات المطلوبة من مختلف المحاصيل. وثانيها تفعيل العقود الزراعية بين المزارعين والقطاع الخاص والمصدرين لضمان سلاسة الإنتاج والتوزيع. وثالثا تأسيس جهة تنظيمية – مثل اتحاد للمزارعين – تتولى متابعة التنفيذ والإشراف على الالتزام بالخطط.
ويشدد المصري على أن نجاح هذه الخطة يتطلب شراكة حقيقية بين القطاع الخاص الزراعي (المزارعون، الاتحادات، شركات التسويق) والوزارات المعنية بالزراعة والمياه والبيئة، بما يضمن تكامل الجهود وعدم تضاربها.


تعزيز الأمن الغذائي ومواجهة التغير المناخي
ويختم المصري رؤيته بالتأكيد على أن تنظيم الإنتاج ليس مجرد خطوة إدارية، بل هو ركيزة لتعزيز الأمن الغذائي الوطني في ظل التغيرات المناخية والضغوط الإقليمية. فالتنظيم يقلل الهدر المائي والمالي، ويضمن توافر المحاصيل الاستراتيجية بانتظام، ما يحمي الأردن من تقلبات الاستيراد الخارجي.
كما أن تنظيم الإنتاج يساعد على التكيف مع التغير المناخي من خلال توجيه الموارد نحو محاصيل أقل استهلاكًا للمياه وأكثر قدرة على التكيف مع الظروف المناخية. ويضيف أن إدخال التقنيات الحديثة، مثل شبكات الري المزودة بحساسات، يمكن أن يزيد من كفاءة استخدام المياه ويرفع إنتاجية وحدة المساحة، لكن تبقى السياسة التنظيمية للإنتاج ضرورية لضبط الكميات والمحاصيل بما يتناسب مع الموارد المتاحة.
ويخلص المصري إلى أن الحل يكمن في نهج شامل يدمج بين التخطيط المسبق، والتكنولوجيا الحديثة، والشراكة بين القطاعين العام والخاص. فالانتقال من العشوائية إلى النظام المنظم لن يحقق فقط استقرار الأسعار وجودة المنتجات، بل سيؤمن أيضًا عائدًا عادلًا للمزارعين، ويحوّل الزراعة إلى رافعة اقتصادية حقيقية تدعم الأمن الغذائي وتستفيد من الموارد المحدودة بأعلى قدر من الكفاءة.