من تل الهوى إلى فينيسيا.. صرخة هند رجب التي هزّت العالم

نبض البلد -

 

الأنباط –آلاف تيسير


 

في ظهيرة شتوية باردة من يوم 28 يناير 2024، تحولت براءة الطفلة هند رجب، ذات الأعوام الستة، إلى صرخة اخترقت جدران غزة المحاصرة لتصل إلى العالم أجمع. كانت تجلس بهدوء داخل سيارة العائلة في حي تل الهوى، إلى جانب والدها وعمها وابنة عمها ليان، عندما دوّى القصف واقترب الموت. لم يكن في المشهد ما يُنذر بأن الدقائق القادمة ستكتب واحدة من أبشع قصص الحرب وأكثرها وجعًا.

 

اللحظة التي توقف فيها الزمن

حين استهدفت دبابة إسرائيلية السيارة، تناثرت أصوات القذائف والرصاص في المكان. التقطت ليان، ابنة عم هند، الهاتف بيد مرتجفة واتصلت بالهلال الأحمر الفلسطيني، تصرخ في محاولة لطلب النجدة: "عمو قاعدين بطخوا علينا، والدبابة جمبي، آه إحنا في السيارة وجنبينا الدبابة”…

لكن الصرخة لم تكتمل، وانقطع صوتها وسط زخّات الرصاص.

بعد لحظات صمت ثقيل، جاء صوت أضعف وأصدق: هند نفسها على الخط، تستنجد ببراءة: "تعالي خذيني… الدبابة قريبة كتير.. أمانة رني على أي حد يوخدني!”

 

مقاومة الألم بالبراءة

لم تفقد هند الأمل رغم جراحها النازفة في الظهر واليد والرجل. الهلال الأحمر أعاد الاتصال، وربطها بمكالمة مع والدتها لتهدئتها، فيما الإسعاف يحاول الوصول. لكن كل دقيقة كانت أثقل من عمرها القصير.

انتظرت الطفلة ثلاث ساعات كاملة. وحين لم يبقَ سوى دقيقة واحدة لتصل سيارة الإسعاف، دوّى انفجار آخر. استُهدفت سيارة الإسعاف نفسها، ليُغلق باب النجاة في وجهها.

في لحظة أخرى، جاء صوت هند متقطعًا، بالكاد مسموعًا: "بنزل من تمي دم". حاولت المسعفة مواساتها، وطلبت منها أن تمسح دمها بكمّ ملابسها. لكن هند رفضت، خشية أن تتعب والدتها في غسلها. لم توافق إلا بعد أن وعدتها أمها عبر الهاتف بأنها ستغسلها بنفسها. مسحت الدم… ثم صمتت للأبد.

 

أدلة لا تُمحى

لم ينتهِ المشهد عند دموع الأم ولا عند صمت الهاتف. فقد فتحت مؤسسة Forensic Architecture البريطانية، بالتعاون مع منظمات دولية، تحقيقًا دقيقًا. باستخدام تقنيات تحليل الأصوات والصور وإعادة البناء ثلاثي الأبعاد، أثبتت أن دبابة إسرائيلية أطلقت 335 رصاصة على السيارة من مسافة لا تتجاوز 23 مترًا.

وفي مكالمة الاستغاثة نفسها، سُجّل إطلاق 64 رصاصة خلال ست ثوانٍ فقط، ما يؤكد أن الاستهداف كان مباشرًا ومتعمدًا.

هذه الحقائق عززت رواية العائلة والمنظمات الحقوقية: ما حدث لم يكن "حادثًا عرضيًا”، بل جريمة مكتملة الأركان ضد طفلة كانت كل ذنبها أنها وُجدت في مكانها وزمانها.

 

من غزة إلى فينيسيا

رحلت هند، لكن صوتها لم ينطفئ. من صرخة صغيرة في تل الهوى، وصل صوتها إلى منصات العالم. في بروكسل، أسس ناشطون فلسطينيون "مؤسسة هند رجب” لتوثيق الانتهاكات ضد الأطفال الفلسطينيين. وفي مهرجان فينيسيا السينمائي، سُمِع صوتها لأول مرة أمام نجوم هوليوود وجمهور عالمي، ضمن فيلم وثائقي حمل قصتها.

المخرجة التونسية كوثر بن هنية والممثل معتز ملحيس أعادا صياغة خبر عابر إلى شهادة حيّة في لغة السينما. وعندما انتهى العرض، وقف الحضور وصفّقوا بحرارة لمدة 24 دقيقة متواصلة، في واحدة من أطول لحظات التصفيق بتاريخ المهرجان.

 

صرخة تتجاوز المكان

في قلب تل الهوى، حيث يلتقي الموت بالحياة كل يوم، ارتفعت صرخة طفلة لم تعرف من الدنيا سوى ألعابها الصغيرة. تحولت كلماتها القصيرة إلى جسر يصل بين غزة والعالم، بين الألم المحلي والضمير الإنساني.

قد لا تعود هند، لكن صوتها البريء صار وثيقة، وذاكرة، وسؤالًا معلّقًا في سماء العالم: كم من هندٍ أخرى يجب أن تُزهق روحها حتى يعرف العالم معنى العدالة؟