رام الله: حكايةٌ من القلب، ترويها ضفتا نهرٍ واحد

نبض البلد -
رام الله: حكايةٌ من القلب، ترويها ضفتا نهرٍ واحد
مادبا – الدكتورة هبه حدادين
بقلبٍ يدرك كيف تتشابك الجذور وتتآلف الأرواح، أقف أمام رام الله. إنها ليست مجرد مدينةٍ على الخريطة، بل هي جزءٌ من حكايتنا، قطعةٌ من وجداننا المشترك. نحن، الذين نشأنا على تراب هذه الأرض، نعلم أن للمدن أصواتاً، وأن رام الله صوتٌ يتردد صداه في كل بيت أردني، حاملاً معه عبق الياسمين ورسائل الشوق التي لا تعرف حدوداً.
الأغنيةُ: بوصلةُ حنينٍ من أيامِ زمان
لم تكن "وين ع رام الله" مجرد أغنية تُذاع من عمان عام 1959. كانت تلك الأغنية، بصوت الفنانة الأردنية سلوى العاص، وكلمات الشاعر علي الكيلاني، وألحان الموسيقار جميل العاص، جسراً من الحنين يربط ما تفكك. لقد ترسّخت في قلوبنا لأنها لم تحكِ عن فراقٍ عابر، بل عن "ولفٍ مسافر" ترك خلفه ليس فقط حبيبه، بل وطناً ألمت به النكبة. كانت رام الله، في كلمات الأغنية، أكثر من مدينة؛ كانت قبلةً للأمان، وملاذاً للأمل، ومحوراً لمشاعر الغربة التي تقاسمها الأردنيون والفلسطينيون كقدر مشترك. كانت الأغنية مرآةً صافيةً عكست واقعاً معقداً، وجعلت من رام الله رمزاً لكل ما هو جميل ومفقود.
من صخر الكرك إلى قلب فلسطين: قصة أصلٍ لا يُنسى
تاريخ رام الله لا يبدأ من الأوراق، بل من العزم الذي يحمله الإنسان في قلبه. في القرن السادس عشر، لم تكن الرحلة من الكرك جنوبي الأردن إلى فلسطين مجرد انتقال جغرافي، بل كانت فصلاً من الصمود، قاده الشيخ راشد الحدادين وأبناؤه الخمسة: إبراهيم، وعيسى، وشخنا، وعلقم، وجرجس. كان هؤلاء الأبناء، الذين تُطلق عليهم روايات التاريخ لقب "الأسود الخمسة"، حملوا معهم من كرك ليس فقط أمتعتهم، بل ثقافة البناء والصمود، وحباً للأرض التي ستصبح وطنهم.
استقروا على تلٍ استراتيجي بالقرب من نبع، فبنوا أولى بيوتهم وكنيستهم الأولى، وغرسوا نواة مجتمعٍ متماسك. إن هذه الهجرة كانت شهادة حية على أن الأصول لا تُنسى، وأن القدرة على غرس الحياة في أرض جديدة هي جزء من هويتنا.
ومنذ خمسينيات القرن الماضي، لم تكن رام الله مجرد مدينة نستمع عنها، بل كانت مصيفاً يعج بالزوار من الأردن وفلسطين على حدٍ سواء. كانت وجهةً للعائلة، حيث تتبادل الأجيال الحكايات والذكريات. كان مناخها العليل وجمالها الساحر عامل جذب لا يُقاوم، مما جعلها تُشكّل مع أريحا، التي كانت مشتىً محبباً، ثنائياً سياحياً فريداً. وهكذا، تجاوزت رام الله وظيفتها كمصيف لتغدو نموذجاً للتحضر، حيث تتعانق جماليات الهندسة الحديثة مع ثقافة التفتح والتسامح التي نشأنا عليها.
الحاضرُ يستحضرُ الماضي: تجديدٌ يروي قصةً
رام الله لا تكتفي بالبقاء في الذاكرة، بل تُجدد نفسها لتكون جزءاً حياً من الحاضر. إن تدشين ساحة راشد الحدادين في عام 2025  بجهود بلدية رام الله والمؤسسات الشريكة، رام ليس مجرد إنجاز هندسي؛ بل هو بيانٌ فلسفي من المدينة. إنها شهادة على أن رام الله لا تزال وفيةً لمؤسسها، وأنها تواصل مسيرة البناء والتعمير حتى في أصعب الظروف.
لقد تحولت الساحة بتبليط أروقتها ونوافيرها وإنارتها الجديدة إلى فضاءٍ عام وبيئة حضرية آمنة وجاذبة يربط الماضي بالحاضر، ويُؤكد أن رام الله مدينةٌ لا تتنازل عن حلمها في أن تكون حاضرةً متقدمة.
مدينةٌ تسكنُ القلب
في نهاية المطاف، تُظهر رام الله قدرةً استثنائية على التناغم بين ماضيها العريق وحاضرها المتجدد. إنها مدينةٌ تروي قصتها على لسان أغنية خالدة، وتؤكدها في كل مشروعٍ عمراني، مُثبتةً أن الجمال هو الأصل، والتطور هو السبيل للحفاظ على الهوية. إن التاريخ فيها لا يُنسى، بل يُبنى عليه؛ لتظل رام الله، بكل ما فيها من حب وصمود، مدينةً تسكن في الذاكرة وتتربع في قلب الحاضر.