نبض البلد -
قراءة: موسى إبراهيم أبو رياش
لا توجد قضية في العالم الحق فيها واضح لا مراء فيه كالقضية الفلسطينية، والمحتل الصهيوني النازي لفلسطين حالة شاذة لا سابقة لها في التاريخ، ولم تكن هذه الكارثة لتقع لولا ضعف العرب وتفرقهم وفساد أنظمتهم. صحيح أنّ الغرب تآمر وساند المغتصب ودعمه وشهد زورا وحكم له بالملكية والأحقية، وهذا متوقع من غرب كان وما زال ينظر للعرب على أنّهم بدو رحل، مشتتون، متنازعون، وأن لا حق لهم في خيرات أرضهم، على اعتبار أنّهم سفهاء جهلة، ينبغي ألا تكون لهم حرية التملك والتصرف. وزاد الطين بلة، أن هذا الغرب يغذي نهم الاستهلاك عند العرب، وحب المباهاة بالشكليات، والاستكثار من الأموال والقصور والأملاك، بعيدا عن أُسس التقدم والحضارة من علوم ومعارف وفكر ووعي.
وتأتي رواية «العاشق الذي ابتلعته الرواية» للأردني أُسيد الحوتري، تأكيدا للحق العربي الفلسطيني في فلسطين، وأنّ جذورها ضاربة في عمق التاريخ، كانت وما زالت عرضة لأطماع الغزاة والبغاة، وأنّ أهلها ما تخلوا عنها ولن يتخلوا، وكفاحهم مستمر، وأنّ «ظريف الطول/عَليان بعل»، سيبقى رمزا للأصالة والمقاومة والبطولة والتحرر، مهما كثر الخونة والمتآمرون والمتخاذلون والفاسدون.
تنتمي هذه الرواية إلى نمط الرواية التخييلية الواقعية، وتندمج بنحو فريد مع التراث والأسطورة، من خلال توظيفها الموفق العميق لحكاية «ظريف الطول» الشعبية المشهورة فلسطينيا؛ حيث تتبع الرواية سيرة شاب فلسطيني يُدعى «ظريف/عَليان» يحمل اسم البطل الشعبي الأسطوري، ويعيش صراعا بين انتمائه الوطني والتاريخي، وواقعٍ ملوث بالخيانة والخذلان والاحتلال. وفي رحلة سردية مكثفة تتنقل بين الحاضر والماضي، تكشف الرواية عن مستويات متعددة من السقوط الإنساني؛ حيث أفراد باعوا قضيتهم وخانوا وطنهم، إقطاعيون استعبدوا شعبهم، ونماذج نضالية طُوردت وأُعدمت. وبينما تُكتب رواية ظريف، يبدو كأنه يُبتلع فيها رويدا رويدا، ليصبح هو نفسه «رواية مستهلكة»، تنهشها الأحداث والخيانة والخذلان.
الخيانة والخذلان
تكشف الرواية عن وجوه متعددة لعدو واحد، وطيف واسع من الخيانة، لا يأتي فقط من العدو المحتل، بل ، وهو الأخطر ـ من الداخل الفلسطيني والعربي، حيث تفضح الرواية شبكة الخيانة متعددة الطبقات، التي تمارس أدوارها بأقنعة مختلفة: سياسية وثقافية وأمنية واقتصادية واجتماعية؛ فالخيانة تتجسد في مسؤولين باعوا التاريخ والجغرافيا، مقابل مناصب أو مصالح، أو عملاء على الأرض تجسسوا على أهلهم وأبناء شعبهم، ومنهم (كيس الخيش) الذي يشي بالمقاومين، أو عملاء داخل السجون (العصفور) الذي ينقل أخبار المعتقلين الأسرى ومعلومات عنهم. كما تسرد الرواية نماذج من «الاستقواء» على الشعب من خلال الظلم والإقطاع البشع واستعباد الناس، ومنهم مَنْ يشتري الأرض لصالح العدو، ويتاجر بمصير الوطن لأجل مصالحه الضيقة، ومنهم مَنْ يتنطع بالوطنية وهي منه براء، حيث تُسْتَبدَلُ الوطنية بالصفقات، وتُدين الرواية من تاجروا بالدم، وساهموا في قتل الحلم الفلسطيني. وفي مقابل هذه الصور، تُبرز الرواية شخصيات نقية تم قمعها أو تشويهها وسجنها، ما يجعل الخيانة لا تتجلى كفعل فردي، بل كمنظومة بنيوية تتغلغل في المجتمع.
وما يعمق من فعل الخيانة وأثرها البشع، أنَّ الشخصيات التي خذلت وتاجرت وتآمرت وساومت على الدم الفلسطيني لم تكن ترتدي زيّ العدو، بل تحدثت بلغتنا، ورفعت أعلامنا، لكنها كانت تفعل ذلك لتقتلنا بروايتنا نفسها، ولعبت أدوارا مباشرة أو رمزية في خيانة القضية الفلسطينية، وتفكيك بنيانها الأخلاقي والنضالي. وفي ذلك، تطرح الرواية سؤالا خطيرا: «هل مات ظريف الطول، أم أنه قُتل مرات ومرات بروايات من صنعنا نحن؟». كما أنَّ الرواية تسائل القوة الكامنة في الحكاية: مَنْ يملك حق الحكي؟ مَنْ يُسرد عنه؟ مَنْ يُمحى من النص؟ فالسرد في هذه الرواية ليس محايدا، بل هو أداة صراع، حيث إنّ الكتابة، إن لم تكن منحازة للحقيقة، قد تصبح سكينا في خاصرة الضحية.
رمزية «ظريف الطول»
يُعد «ظريف الطول» في التراث الفلسطيني رمزا للمقاوم الجميل، العاشق النبيل، والمتمرد الفارس الذي يحمل صفات مثالية في القوة والحب والانتماء. لكن الرواية تعيد تأويل هذه الشخصية لتُظهرها في حالة اغتراب وتحوّل، فظريف المعاصر لا يشبه كثيرا ذلك الظريف الأسطوري، بل هو ظلّ له، تائه بين هويته الرومانسية وطحن الواقع. هذه الرمزية تعكس ما آل إليه حال الفلسطيني: من مشروع تحرري إلى مشروع سردي، ومن بطولة مغناة إلى ذاكرة مغدورة. فـظريف لم يعد يركض خلف الحبيبة والحرية، بل يهرب من الخيانة، ومن رواية تكتب عنه لا يعرف إن كان مؤلفها أم ضحيتها.
إنَّ توظيف حكاية «ظريف الطول» في الرواية ليس احتفاءً بالتراث فحسب، بل هو إعادة تأويل للأسطورة في ضوء الحاضر. فالبطل الشعبي، الذي كان رمزا للبطولة والكرامة، يُعاد إنتاجه الآن بشكل هجين، يناسب مقاسات المرحلة، حيث إنّ ظريف لم يعد فارسا شجاعا، بل أصبح مشروعا إعلاميا، أو أغنية شعبية، أو مشروع رواية، يختلف جوهره حسب مَنْ يكتبه، فقد يكون بطلا عند هذا، وخائنا عند ذاك. كما أنّ الحب في الرواية ليس مجرد علاقة رومانسية، بل شكل من أشكال الانتماء، فالعشق الذي يعيشه «ظريف» هو عشق الأرض، والناس، والكرامة، لكنه أيضا محاطٌ بالخيانة من الأحباب والرفاق. وعلى أي حال؛ يبقى «ظريف الطويل» الفارس النبيل المنتظر في كل حين؛ ليجدد الأمل، ويبشر بالخلاص؛ سيفا في يد الحق، وسوطا على يد كل ظالم وخائن ومتآمر. وسيبقى رمزا لكل ما هو جميل، ومرآة لمعاني البطولة والشهامة والنخوة، وقدوة ونموذجا عابرا للأجيال. وما يميز الرواية هو، قدرتها على تفكيك الزمن، واللعب على التوازي بين الماضي المثقل بالرموز، والحاضر المنهك بالخذلان. إذ تُعيد صياغة الأسطورة الشعبية لتضعها وجها لوجه مع الواقع السياسي والاجتماعي المأزوم. وتصبح الحكاية التراثية «ظريف الطول» عدسة نقدية تُسائل اللحظة المعاصرة: ماذا حدث للمقاوم الجميل؟ هل اغتيل فعلًا؟ أم أصبح أداة بيد الخطاب الرسمي؟ بهذا الربط، تنجح الرواية في كشف الفجوة بين المثال والواقع، وتفتح المجال لتأملات عميقة حول ضياع البوصلة الأخلاقية والوطنية في زمن الرواية السياسية السطحية.
دلالة العنوان
يحمل عنوان الرواية «العاشق الذي ابتلعته الرواية» كثافة رمزية بالغة، تكشف عن جوهر العمل بأكمله، فـ«العاشق» هنا رمز للحب الإنساني، ولكنه قبل ذلك صورة مركبة للمقاوم وللمنتمي، الذي أفنى نفسه من أجل الحكاية الفلسطينية الكبرى. إنّه العاشق لفلسطين وللحرية وللحق المغدور. غير أنَّ المفارقة المؤلمة التي يحملها العنوان، تكمن في أنَّ هذا العاشق لم يُحتفَ به أو يُنصف، بل ابتلعته الرواية، أي تم التهامه من قبل حكاية زائفة، مزوّرة، مصنوعة في مطابخ السلطة والمثقفين المتواطئين، أو حكاية صيغت حسب مقاسات المرحلة واشتراطاتها لتشوه الرمز وتمحوه من ذاكرة الأجيال. بهذا المعنى، تتحول «الرواية» في العنوان من كونها مساحة للتعبير والتحرر، إلى أداة اغتيال رمزي، تبتلع العاشق وتعيد إنتاجه وفق سردية مشوهة. لقد أصبح من يفترض أن يكون بطل الحكاية مجرد «مادة خام» لصناعة خطاب سلطوي ممجوج، ومجرد اسم يُتلاعب به في المؤتمرات والندوات والمناهج والإعلام. العنوان إذن هو صرخة ضد التزييف، وتعبير مرير عن مأساة الفلسطيني الذي ضاعت قصته بين الأقلام المستأجرة والعدسات الانتقائية. وهو أيضا سؤال مفتوح: «هل نكتب روايتنا لنُخلّد أنفسنا، أم ليبتلعنا غيرنا ويكتبنا كما يشاء؟».
وبعد؛ فإنَّ رواية «العاشق الذي ابتلعته الرواية» الصادرة في عمّان، عام 2024، ليست مجرد قصة شاب يبحث عن ذاته، بل هي مرآة سوداء لزمن هش تتبدد فيه المعاني، وتصبح فيه البطولة محل شك. تسائل الرواية الفعل النضالي ذاته، وتكشف أنَّ الاحتلال قد يكون أحيانا أقل خطورة من أولئك الذين يلبسون قناع «الوطن» ليخنقوه. وبأسلوب واضح صارخ، وبلغة فيها الكثير من الغضب النبيل، تُرينا الرواية كيف يمكن للأسطورة أن تنهار، وكيف يُمكن للعاشق أن يُبتلع، لا على يد العدو، بل على يد «الرواية» التي خذلته.
ويُسجل لهذه الرواية، وهي الثانية لأُسيد الحوتري، أنّها ربطت الماضي السحيق بالحاضر الماثل بطوفان الأقصى، واستحضرت «ظريف الطول» في شخص «الملثم» الأكثر حضورا وتأثيرا في الوجدان الشعبي الفلسطيني والعربي، وأكثر من يبث الرعب ويمارس الحرب النفسية باقتدار على العدو الغاصب وجمهوره.