نبض البلد -
حاتم النعيمات
خلال مقابلة مهمة على "بي بي سي"، وجّه جلالة الملك عبد الله الثاني رسائل سياسية مهمة إلى العالم حذر عبرها من خطورة المشهد في المنطقة، حيث ذكّر الملك بأن الشرق الأوسط ما زال يقف على فوهة انفجار رغم الإجماع الدولي شبه الكامل على خطة ترامب للسلام في المنطقة، وذلك في حال لم يُستعاد المنطق الذي غاب عن أفق الحدث منذ سنوات، وهذا المعنى حمله توقيت نشر المقابلة المتزامن مع اجتماع شرم الشيخ.
لطالما حذّر الملك من أن غياب الحل العادل للقضية الفلسطينية لن يُبقي المنطقة في حالة توازن هش فقط (كما هو اليوم)، بل سيقودها إلى فوضى مفتوحة. ومع تراكم المشاهد الدموية في غزة والضفة الغربية، تبدو تحذيراته وقد تحوّلت إلى واقع ملموس، حيث اضطرت معظم دول العالم إلى تكوين زخم هائل غير مسبوق لتدعيم خطة إنهاء الحرب التي اقترحها ترامب (الاجتماع شمل أيضًا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية)، وهذا التحشيد دليل على صعوبة الوضع وليس العكس؛ لذلك، جاءت التصريحات الملكية لتحذّر الجميع من أن البروتوكولات ليست ضامنة للسلام بقدر قيام دولة فلسطينية مستقلة.
عبارة "الشيطان الكامن في التفاصيل” التي قالها الملك كانت لافتة ومهمة جدًا، وتعد دلالة على معرفة عميقة بوجود أطراف قد تستخدم "التفاصيل" لإعادة تفجير الأوضاع مرة أخرى، ودلالة أيضًا على تقدير واقعي لمدلولات الشكلية الواضحة التي سادت أجواء حفل توقيع وثيقة شرم الشيخ، وأنها قد لا تكون هي الضامن الفعلي للسلام. وخلال أقل من 24 ساعة حدث ما حذر منه الملك، إذ بدأت الأخبار تأتي من غزة عن اشتباكات بين حماس ومجموعات أهليه، ومناوشات مع قوات الاحتلال قرب الخط الأصفر.
التحذير الملكي تناول المشهد من زاوية أخرى، حيث أكد الملك بشكل صريح أنه لا يثق بما يقوله نتنياهو، والرسالة واضحة هنا، وتفيد بأن وجود نتنياهو نفسه يؤثر سلبًا على ائتمانية العملية كلها ويقلل من قيمة أي ضمانات لإقامة سلام حقيقي مبني على حل الدولتين.
الأردن، كما يظهر من بين سطور حديث الملك، لم ولن يكون متفرجًا على الأحداث، بل في قلبها رغم الجحود والتزاحم المبالغ به على "استرضاء" التوجه الأمريكي الذي لم يتضمن -حتى الآن- بشكل صريح تبني مشروع الدولة الفلسطينية المنشودة أردنيًا.
على ضوء ذلك، فإن ما يحتاجه الداخل الأردني اليوم، هو أن يتحرك بالوتيرة نفسها التي يفكر بها الملك؛ فالتحولات التي تضرب الإقليم تستدعي أن يخلق الأردنيون جسمًا سياسيًا حزبيًا متماسكًا، يسند الدولة والقيادة، ويملأ الفراغ الذي تركته "قوى كلاسيكية" تآكلت أو انتهى دورها، فلم يعد ممكنًا أن يظل المشهد الحزبي الأردني أسيرًا لزمن الخطابات القديمة التي لطالما حاول أصحابها ابتزاز الدولة عند المنعطفات.
الملك تحدث للعالم، لكن رسالته كانت موجهة أيضًا إلى الداخل لتستدعي منا تجويد وتسريع الجاهزية السياسية للوقاية من التقلبات التي يضعها الملك بصراحة على الطاولة. أي أن الدولة بحاجة إلى حلفائها الحقيقيين، من النخب والكوادر والشباب، لبناء مشروع سياسي حديث يحمي الاستقرار. فحين تنهار القوى التقليدية في المنطقة وتُعاد صياغة التوازنات الإقليمية من جديد، يصبح من واجب الأردنيين أن ينتجوا أدواتهم السياسية الوطنية القادرة على دعم الملك والدولة.
وعليه، فإننا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة بناء الوعي السياسي في الداخل الأردني على أسس جديدة، قائمة على الفعل لا رد الفعل، وعلى البرامج لا الولاءات، فحين تختفي القوى الكلاسيكية التي كانت تملأ المشهد العربي بشعاراتها، لا بد أن ينهض في الأردن جسم حزبي وطني حقيقي، منظم الفكر، واضح الانتماء، يكون سندًا للملك في معركة الحفاظ على هوية الدولة ودورها الإقليمي.
لقد أثبت الملك عبد الله الثاني، مرة بعد مرة، أنه لا يتحدث من فراغ، وأن استشرافه للأحداث لم يخطيء يومًا منذ تحذيراته المبكرة بشأن الهلال الشيعي قبل عشرين عامًا، بعيد غزو العراق، إلى تلك الفوضى التي تبعث مرحلة ما بعد "الربيع العربي”، إلى رؤيته حول عدم كفاءة الحلول المؤقتة في فلسطين. واليوم، نحن أمام تشخيص جديد، ثاقب الرؤية، ومغاير للسائد فيما يخص خطة السلام الجديدة. لذلك، لا بد من وقفة تأمل في حديثه من قبل جميع الأطراف المعنية، لعل المنطقة تنجو من أزمات تشير إليها الظروف الراهنة.