نزيف الكفاءات في غزة.. كيف تؤثر الهجرة على مستقبل القطاع؟

نبض البلد -
الاحتلال يسعى لتصوير المجتمع الفلسطيني على أنه عاجز عن النهوض بذاته

العابد: الاحتلال يحرم الفلسطينيين من أبسط مقومات الحياة ويستهدف الكفاءات بشكل ممنهج
حسين: الهجرة ليست نتيجة الحرب فقط بل حصيلة تراكمات الحصار والانقسام السياسي

الأنباط – رزان السيد

في ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية آخذة بالتدهور، يشهد قطاع غزة موجة غير مسبوقة من هجرة الكفاءات والعقول الشابة، فقد غادر نحو 100,000 من أصحاب التخصصات والمؤهلات، من أطباء ومهندسين وأكاديميين وطلبة جامعات، القطاع بين أكتوبر 2023 وبدايات عام 2025، في مشهد يعكس عمق التآكل الذي أصاب البنية المجتمعية في غزة.
وتشير بيانات غير رسمية وتقارير لمنظمات دولية ومراكز بحثية إلى أن وتيرة الهجرة تسارعت بشكل كبير بعد اندلاع الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023، والتي ترافقت مع تدهور كارثي في الأوضاع الإنسانية، وانهيار شبه تام للبنية التحتية، وانسداد الأفقين السياسي والاقتصادي أمام سكان القطاع.
ويحذّر مختصون من أن هذا النزيف المستمر في الموارد البشرية يشكل خطرًا استراتيجيًا على مستقبل غزة، ويهدد بإفراغها من نخبتها العلمية والمهنية، مما يعمق أزمة التنمية، ويزيد من اعتماد القطاع على المساعدات الخارجية.

الاحتلال يستنزف الطاقات ويقمع الكفاءات
ويرى المحلل السياسي نعمان العابد، في حديث لـ"الأنباط"، أن المجتمعات التي تعاني من الاحتلال أو النزاعات المسلحة تفقد الأمل بإمكانية العيش الكريم، ما ينعكس على استقرارها الداخلي وتماسك قطاعاتها الحيوية.
وأشار العابد إلى أن أصحاب الكفاءات العلمية والأكاديمية غالبًا ما يكونون الأكثر تأثرًا بهذه البيئة، حيث يشعرون بالعجز عن تطوير مهاراتهم أو خدمة مجتمعاتهم، وهو ما ينسحب بوضوح على ما يتعرض له الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي، لا سيما في قطاع غزة.
ووصف العابد الاحتلال بأنه "إحلالي استعماري" يمنع الفلسطينيين من أبسط حقوقهم في الحياة الكريمة، ويستهدف بشكل ممنهج قدرتهم على بناء مؤسساتهم، عبر ضرب منظومة التعليم، والصحة، والإعلام، والبحث العلمي. وأوضح أن الاحتلال يسعى لتصوير المجتمع الفلسطيني كعاجز عن النهوض بذاته.
وأضاف أن آلاف الكفاءات التي تمكّنت من مغادرة غزة خلال السنوات الأخيرة أثبتت قدراتها في الخارج، وهو ما يكشف حجم الطاقة المعطلة داخل القطاع بسبب الحصار والسياسات الإسرائيلية. ولفت إلى أن ما تبقى من الكفاءات في غزة تعيش في حالة شلل تام، محرومة من الإمكانيات والبيئة التي تتيح لها الإنتاج والتطور.
كما أشار إلى تجربة عودة الكفاءات خلال فترة ما بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، حين شهدت غزة والضفة بناء مؤسسات طبية وتعليمية واقتصادية بإسهام مباشر من الكفاءات العائدة، ما يدل على أن الفلسطينيين قادرون على النهوض متى توفرت بيئة سياسية آمنة ومستقرة.
وحمل العابد المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، مسؤولية استمرار الاحتلال، منتقدًا عدم قيامه بدور فعّال في إنهاء معاناة الفلسطينيين، بل على العكس، فبعض الدول فتحت أبوابها لاستقبال الكفاءات الفلسطينية، ما أدى إلى تسهيل هجرتها واستنزاف قدرات الشعب الفلسطيني.

وشدد على أن هجرة الكفاءات وإن كانت مفهومة من منطلق إنساني، إلا أنها تمثل خسارة استراتيجية فادحة لأي مشروع وطني تنموي، ما يتطلب لاحقًا خططًا وطنية لإعادة استقطاب العقول المهاجرة.
وأكد أن غياب الكفاءات يترك فراغًا صعبًا في بنية المجتمع، وأن الدولة الفلسطينية المستقبلية والسلطة الوطنية مطالبتان بوضع خطة متكاملة لإعادة هذه الكفاءات وتوظيفها في عملية الإعمار والبناء.
كما اعتبر أن الانقسام السياسي الفلسطيني فاقم من الأزمة، وأسهم في اتساع نطاق الحصار والعزلة، خصوصًا في قطاع غزة. وأكد أن إنهاء الانقسام يجب أن يكون على رأس الأولويات الوطنية، لما له من تأثير مباشر على تحفيز الكفاءات للبقاء أو العودة.

الهجرة.. نتيجة الحصار والانقسام وغياب الأفق
من جهته، أكد الدكتور عمرو حسين، الباحث في العلاقات الدولية، أن غزة شهدت خلال السنوات الأخيرة، وخصوصًا بعد الحرب الأخيرة، تصاعدًا ملحوظًا في معدلات هجرة الكفاءات، حيث تشير التقديرات إلى مغادرة نحو 100 ألف من أصحاب المؤهلات والتخصصات العالية، في مؤشر خطير على عمق الأزمة المتجذرة.
وأوضح حسين أن هذه الهجرة ليست مجرد نتاج مباشر للحرب، بل نتيجة لتراكمات طويلة الأمد، على رأسها الحصار، والانقسام السياسي، وغياب الرؤية الوطنية الشاملة، بالإضافة إلى انسداد آفاق المشاركة السياسية والاجتماعية أمام الشباب والخبراء.
وأشار إلى أن كثيرًا من الكفاءات غادرت بسبب شعورها بعدم القدرة على التأثير أو التطور داخل بيئة تفتقر للاستقرار بسبب الاحتلال.
وبشأن تأثير هذه الظاهرة على جهود الإعمار، شدد حسين على أن الأمر خطير للغاية، فإعادة إعمار غزة لا تتطلب فقط الموارد والتمويل، بل تحتاج إلى عقول تخطط وتنفذ وتؤمن بالمكان. وتساءل: "من سيقود جهود الإعمار إن غادرت العقول والمهارات؟”
وأكد أن فقدان الكفاءات قد يُحدث تحوّلًا سلبيًا في البنية الاجتماعية والاقتصادية للقطاع، إذ يخلق فراغًا قد يُملأ من قبل قوى غير مؤهلة أو لا تملك الإرادة الحقيقية لبناء الدولة والمجتمع.
ومع ذلك، أعرب حسين عن تمسكه بالأمل، لكنه اشترط ذلك بإنهاء الانقسام السياسي، ورفع الحصار، وتوفير بيئة سياسية ديمقراطية وشاملة تضع الكفاءة والخبرة في مقدمة الأولويات، وتعيد الثقة للعقول المهاجرة بإمكانية العودة والمساهمة في التنمية.
وختم حسين حديثه بالتأكيد على أن المجتمع الدولي لا يمكن أن يُعفى من المسؤولية، إذ أن استمرار الحصار وصمت المؤسسات الدولية ساهم في خلق بيئة طاردة لا جاذبة. وقال إن الدعم الدولي لا ينبغي أن يقتصر على الإغاثة، بل يجب أن يشمل حق الفلسطينيين في الحياة الكريمة وبناء وطنهم بكفاءاتهم، لا بالاعتماد على الخارج فقط.