نماذج أعمال جديدة في الاقتصاد الذكي

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في زحام العالم المتغير، حيث تتساقط النماذج التقليدية كما تتساقط أوراق الخريف، ينهض جيل جديد من الأفكار الاقتصادية، يلبس ثوب الذكاء، ويتنفس رقميًا، ويزدهر في بيئة لا يعترف فيها الزمن بالبطء ولا السوق بالثبات. هذا هو الاقتصاد الذكي، العصر الذي يُعيد تعريف مفاهيم العمل، والقيمة، والإنتاج، والثروة، ويقلب قواعد السوق رأسًا على عقب. إنه ليس مجرد تطور طبيعي للرأسمالية، بل قفزة جريئة نحو نماذج أعمال تتحدى المنطق القديم، وتفتح نوافذ لفرص لم يكن ليتخيلها أحد قبل عقدين فقط.
في الاقتصاد الذكي، لا تعود القيمة محصورة في المنتج بحد ذاته، بل في التجربة، في البيانات، في القدرة على التخصيص الفوري والتفاعل اللحظي. وهنا تبدأ نماذج الأعمال الجديدة في الظهور، كأنها كائنات متطورة نجت من تسونامي التحول الرقمي. من أبرز هذه النماذج، اقتصاد المنصات، حيث لا تملك الشركة شيئًا مما تبيعه، لكنها تملك القدرة على الربط بين الطلب والعرض بكفاءة لا تضاهيها شركات التصنيع العملاقة. أمازون لا تملك كل البضائع، لكنها تملك الخوارزمية التي تعرف متى وأين ومَن يريد ماذا. أوبر لا تملك السيارات، لكنها تملك نموذجًا رياضيًا يحوّل الزمن والمكان إلى نقود. في هذا النموذج، البيانات هي البضاعة، والخوارزميات هي اليد الخفية للسوق.
وفي قلب هذا التغيير، يظهر نموذج الاقتصاد القائم على الذكاء الاصطناعي، حيث يُعاد رسم العلاقة بين الإنسان والآلة. الشركات الناشئة اليوم تبني أعمالها من الصفر على قدرة الذكاء الاصطناعي على التعلّم، والتنبؤ، والتفاعل مع العملاء. هناك مصممون يبيعون تصاميمهم عبر منصات تعتمد على الذكاء الاصطناعي في اختيار اتجاهات الموضة. وهناك مؤسسات صحية تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم استشارات طبية مخصصة، تبني نماذج أعمالها على الاشتراكات الرقمية، وتُحسّن من خدمتها كلما زادت قاعدة بياناتها. إنها نماذج لا تكبر فقط بالحجم، بل بالذكاء.
ونجد أيضًا نموذج "الاقتصاد اللانهائي"، حيث لا يُباع المنتج مرة واحدة، بل يتحول إلى خدمة مستمرة، تدفع مقابلها اشتراكًا شهريًا لتحصل على تحديثات، تجارب، ومحتوى لا ينتهي. من الموسيقى إلى البرامج إلى التعليم، أصبح كل شيء يُباع كخدمة. لا تملك البرنامج، بل تستخدمه. لا تشتري الكتاب، بل تستمع له. هذا النموذج يخلق دخلًا متكررًا مستدامًا، ويبني علاقة طويلة الأمد بين الشركة والمستهلك، تُغذّيها البيانات، وتُعمّقها التجربة.
أما في المدن الذكية، فتنبثق نماذج أعمال جديدة تتكامل فيها الخدمات العامة والخاصة مع الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. الشركات التي تدير المواقف الذكية، أو الطاقة المُدارة بالخوارزميات، أو النقل التشاركي المتصل بشبكات المدن، لم تكن لتوجد في الاقتصاد التقليدي. هي شركات تنمو في فضاء ذكي، تُسهم في تحسين جودة الحياة، وتبني اقتصادات محلية مرنة ومستجيبة للواقع.
ومع صعود العملات الرقمية، يظهر نموذج الأعمال اللامركزي، حيث تختفي الوساطة، وتظهر القيمة مباشرة بين الأطراف. المشاريع الناشئة تُموَّل الآن عبر تقنيات التمويل الجماعي المعزز بالبلوك تشين، والعملات المشفرة تُستخدم لدفع أجور العاملين المستقلين عبر الحدود، والملكيات الرقمية تخلق اقتصادًا جديدًا للثقافة، والفن، والمحتوى.
لكنّ ما يُميز كل هذه النماذج ليس التقنية فحسب، بل الفلسفة التي تقف خلفها. إنها فلسفة تتحدى فكرة المركزية، وتؤمن بأن القيمة يمكن أن تُخلق في كل مكان، وتصل إلى أي مكان، وتُدار من أي مكان. إنها دعوة للمخيلة، للجرأة، للخروج من الصندوق إلى الفضاء المفتوح.
وفي العالم العربي، أمامنا فرصة تاريخية لا تُقدّر بثمن. لسنا مضطرين لأن نبدأ من الماضي. نستطيع أن ندخل هذا السباق من المنتصف، من خلال بناء نماذج أعمال قائمة على شبابنا المبدع، وعلى البنية الرقمية المتنامية، وعلى مشاكلنا المحلية التي يمكن أن تكون وقودًا لحلول عالمية. يمكننا أن نبتكر نماذج تُعالج بطالة الشباب عبر منصات حرة ذكية، أو تُعزز السياحة الرقمية بتجارب واقع افتراضي، أو تُدخل الذكاء الاصطناعي في الزراعة والصحة والتعليم بطريقة تُحدث نقلة حضارية شاملة.
الاقتصاد الذكي لا ينتظر أحدًا. من يتأخر يفوته القطار، ومن يجرؤ على التخيل والعمل والابتكار يصعد إلى قمرة القيادة. العالم يتغير، والنماذج تتغير، والسوق يُعاد بناؤه من جديد. أما السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه اليوم، فليس: ماذا سيحدث؟ بل: ما النموذج الذي سنبنيه نحن؟ لأن المستقبل لا يُوهب… بل يُصنع.