الشر في العناوين وليس في التفاصيل.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

تعتمد الرواية الإعلامية المعادية للأردن على العناوين أكثر من التفاصيل، وسيكتشف أي راصد موضوعي أن معظم الحملات التي تم توجيهها إلى الرأي العام الأردني كانت حملات عناوين لا تفاصيل، ولا ننسى أن عناوينًا مثل لجسر البري، وقبول الأردن للتهجير، والقواعد الأمريكية، وعناوين أخرى تكسرت بسهول أمام التفاصيل والتوضيحات.

العناوين الخبرية هي الذخيرة التي تستخدم في الحملات، فهي تستهدف من لا يريد التأكد من التفاصيل، ولنكن صريحين ونعترف أن الغالبية الفائقة من مستخدمي التواصل الإجتماعي يتعاطون العناوين ولا تهمهم التفاصيل. بالتالي فنحن اليوم أمام أزمة عميقة يجب الالتفات إليها.

يُقصف الرأي العام الأردني يوميًا بعشرات العناوين المضللة كالمذكورة في البداية، ويتفاعل الكثيرون معها وتسري حالة من الاحتقان في البلاد عند كل موجة أو قصة، وتتعالى الاتهامات وتتوالد الإساءات للأردن ومواقفه، ثم يتبع ذلك حملة "تفاصيل" مضادة من قبل الدولة ونشطاء وكتاب يحاولون إظهار الحقيقة لكن هذه الحملة سرعان ما يقتلها الوقت، وتبور في سوق تتداول فيه عُملة العناوين لا التفاصيل.

تفوُّق "حملات العناوين" في سرعة الإنتشار على "حملات التفاصيل" يمثل ارتكاز رواية التضليل، فلا يعقل أن يصدق أي شخص عاقل عنوانًا مثل "الإنزالات الجوية الأردنية تقتل الغزيين" إلا إذا كان قد تعرّض إلى وابل من هذا النوع من العناوين وصدقها بالتكرار والتوالي، كنتيجة، فإن هذا الوضع أدى إلى خلق ثقة -تشبه الإدمان- بين مرسل العنوان المُضَلل والمتلقي، فأصبح الأخير يعمل بالمجان والتطوُّع لدى الأول سواءً بقصد أو بدون قصد. تخيل أن عنوانًا مثل هذا تبناه الكثيرون الأردن، مع أنه غير منطقي بالمطلق، لأن الافتراض بأن الإنزالات الأردنية يُقصد منها قتل المدنيين في ظل كل هذا القصف هو مخض خرابٍ كبير في الخوارزميات العقلية.

لقد عانى الأردن من حرب العناوين هذه منذ عقود، لكن انتشار وسائل التواصل الإجتماعي وتكاثر الاضطرابات في المنطقة فاقم الوضع. وكان العدوان على غزة قد مثّل تجربة مهمة في هذا السياق، حيث كان منطلقًا لهجمات إعلامية شرسة ضد الأردن، وأنتجت المأساة الإنسانية نمطًا إعلانيًا يمكن بسهولة من خلاله إلصاق أي تهمة بالأردن لمجرد وضعها في عنوان مثير، لذلك، فمن العبث الاستمرار في مواجهة تلك العناوين بالتفاصيل، ولا بد من خلق منظومة عناوين مضادة تستطيع أن تخلق توازنًا.

تراكم الغضب -بغض النظر عن مشروعيته- داخل المجتمعات خطير، ولا بد من التعامل معه بطريقة ذكية وديناميكية. والشكل المشروع من الغضب مفهوم لأنه نابع من دوافع تحقيق مصلحة الأردن، والغاضبون من هذا النوع يمكن التعامل معهم بالتوضيح والتفاصيل، أما الغضب المنقلب عن وهم العناوين والموقف المسبق الحاقد، فهذا يحتاج لتحرك كبير من قبل الدولة والإعلام الوطني والنشطاء بمعالجة مصدر هذه العناوين ومتابعة من يعيد بثها من تيارات سياسية ومنصات، ومن خلال إيجاد منصات ووكالات إخبارية لإيجاد رواية فعل ذكية بالدرجة أولًا، ولتفنيد العناوين المعادية بعناوين واضحة كاشفة للحقيقة ثانيًا.

الأطراف المعادية للأردن لديها محطات ومنصات ووكالات إخبارية بميزانيات هائلة لا يمكن مجاراتها بسهولة لا من الحكومة ولا من المدافعين عن الموقف الأردني، لذلك فنحن أمام حاجة لأن يكون جوهر العمل وقائيًا لتحصين المتلقي والنشء الجديد بالذات من خلال تسخير الأدوات الحديثة كالتواصل الاجتماعي والاتصالات لإظهار رواية الحق.

مع هذا كله، فإن بيئة الاتصال في الأردن في تحسن ملحوظ خلال الفترة الأخيرة، فقد عايش الكثير من الناس روايات الإفتراء على الأردن، وشاهدوا زورها بأم أعينهم. وقد يقول قائل إن المعلومات المضللة والافتراءات موجودة في كل المجتمعات ولا يمكن تصفيرها مهما كان، وهذا صحيح عندما تكون ضمن معدلات طبيعية، وبمضامين عادية، وليس ضمن حرب مستمرة وموجهة لفسخ العلاقة بين الدولة والشعب وصولًا إلى الفوضى لا سمح الله.