الانقلاب الناعم .. قداسة السلطة وسقوط الدولة الحديثة

نبض البلد -
المحامية هبة ابووردة 
في الوقت الذي تتهاوى فيه أطراف هذا الكوكب كأوراق خريف بغير أوان، وبينما الولايات المتحدة تسير على خيط مشدود فوق هاوية الداخل والخارج، وفيما يتوقع من قادة العالم أن يحبسوا أنفاسهم استعدادا لأي عاصفة جديدة، يخرج الرئيس السابع والأربعون لأمريكا، دونالد ترامب، من بين الركام متشحا برداء القداسة المزيفة.
لم يعد ترامب يجد في نفسه مجرد رجل سياسي أو موظف دستوري، في عصر تهشمت فيه تيجان الملوك وتهدلت أعلام الجمهوريات، كما أن الأزمة العالمية الراهنة قد صدعت الشرعية وهدمت الثقة بالمؤسسات، فلم يعد هناك مكان لحكم يقوم على التعاقد العقلاني بين الدولة والمواطن، ولا لرئيس منتخب يحكم بناء على برنامج سياسي قابل للقياس والنقد.
التقط ترامب بذكائه الغريزي النادر، أن الأزمات الوجودية المتصاعدة خلقت فراغا نفسيا لا يمكن أن يملأ بالآليات التقليدية للشرعية؛ فالشعوب وصلت إلى حد من الخوف لا ترتجي معه برنامجا انتخابيا بعد الآن، وعيونهم تترقب المخلص، فقرر بثبات المستيقن من قدره، أن يمسك بأحدث أدوات عصره، معلنا بطريقة مبطنة أن قضيته تجاوزت الساحة السياسية واستقرت في هيكل الطاعة المطلقة.
قد تبدو هذه الاستعراضات مجرد مظاهر شخصية فارغة أو "مزحة ذكاء اصطناعي"، إلا أنها بعين السياسة تمثل تجاوزا خطيرا لحدود الرئاسة التقليدية، وإشارة تحذيرية لملامح تأسيس سلطة جديدة  في الوعي الأمريكي والعالمي تمهيدا لإعادة تشكيل مفهوم القيادة السياسية، من زعامة وظيفية دستورية، ينتخب فيها القائد لتمثيل إرادة الناخبين، إلى زعامة شبه مقدسة، تجسد خلاصا وطنيا ودينيا وقوميا في آن واحد.
الدين، الوطن والسيف… سردية رمزية، تمثل "مشيئة خارجية” تختار القائد الذي يجمع بين القوة والعدالة، بين الزعامة والخلاص، تحول الرئاسة إلى رسالة، والقرارات السياسية إلى وصايا مقدسة، والمعارضة إلى تجديف ضد إرادة القوى العظمى.
في السياسة لا مكان للتحركات الفارغة، ولا مجال لقراءة أي حركة بمعزل عن التراكم الرمزي الصريح، لذلك لا يمكن أن يخرج ما تم نشره من صور الذكاء الإصطناعي عن كونه خطوات إضافية في مسار متدرج، بدأ فعليا منذ عام 2019 حين وصف نفسه بـ”المختار”، ثم نظر إلى السماء بطريقة درامية، وكأنه انتقي من السماء لقيادة حرب الخير ضد الشر العالمي الصين، الليبرالية، والنخب السياسية. 
وفي خطوة أخرى أكثر جرأة، أعاد نشر تغريدة لأحد أنصاره وصفه فيها بأنه "ملك إسرائيل وابن الله الثاني”، دون أن يُصدر أي تعليق مما فُهم أنه تأييد ضمني لهذه النظرة، ثم عاد إلى الرمزيات الدينية عام 2020، عندما خرج فجأة من البيت الأبيض باتجاه كنيسة القديس يوحنا أثناء احتجاجات "حياة السود مهمة”، ووقف رافعا الكتاب المقدس بصمت مسرحي، مشهد بدا شديد الفجاجة لدرجة أن بعض القساوسة اعتبروه استغلالًا دينيا للسلطة، بينما هو بعين القارئ السياسي أن هناك تدشينا ناعما لدين مدني جديد. 
هذه الصور الأخيرة، هي خطوة جديدة إلا أنها أكثر رعبا يدق فيها ترامب أول نواقيس قيامته السياسية الكبرى، معلنا بداية تأسيس "كنيسة سياسية” عابرة للحدود، يتوج فيها بتاج الذهب الميثولوجي، حاكما بقبعة البابا، حارسا لعقيدة جديدة ضد "الكفر الليبرالي العالمي"، ومصدر شرعيته قدر مفترض، يصبح الخصام معه خصاما مع "الإيمان”، والنقد له جريمة بحق "العقيدة”.
اختيار ترامب للزي الأقدس في الكنيسة الكاثوليكية، خطوة محسوبة بعناية في بناء سردية تتجاوز حدود السلطة المدنية، وتحمل أبعادا أخطر مما تبدو للوهلة الأولى؛ خاصة أن هذا الزي الديني هو رمز السلطة الروحية المطلقة، مما توحي بأن ولايته رسالة موكولة إليه من قوى فوق دستورية، لاستعادة النظام العالمي المترنح، وبالمعنى السياسي هي إعلان صامت عن إعادة تدشين لعصر تختلط فيه التيجان بالتعاويذ، والسياسة بالقداسة.
الرمزية المكثفة في الصورة، تنطق ببلاغة لا تخفى، نقاء العقيدة، السلطة الروحية والعصمة عن الخطأ يلخصها الزي البابوي، بينما تعكس نظرته الجادة دور القائد الروحي المخلص الذي ينذر ببيان دستوري مؤسس لدين جديد ينصب مذبح سياسي فوق أنقاض الديمقراطية الحديثة، ولم يغفل ترامب بعقله الحاد عن تعزيز الصورة بخلفية مضيئة، ليبدو وكأنه ينبثق كنور أوحد من وسط عالم تغمره الظلمات.
مسقطا بذلك آخر الأقنعة بين السياسة والدين، ومعلنا بصامت أن القانون البشري لم يعد مرجعيته، وأن الصراع المقبل لن يكون بين يسار ويمين، إنما معركة خلاص ديني سترسم حدودها بمعايير الإيمان والكفر، أما الخصوم ما هم إلا هراطقة يجب محاربتهم، وأي تحالف منهم ضده هو تحالف مع الشيطان.
انقلاب ناعم لكنه جذري على مفهوم الجمهورية الأمريكية الحديثة؛ إذ تقف اليوم أمام زعيم حول السياسة إلى قداس دموي، يعتليه مذبح تتناثر حوله جثث الحقيقة والعقل والمنطق، وكأنه "الرئيس الميتافيزيقي”، الذي يستخدم أحدث أدوات العصر ليبعث مجددا أساطير السلطة المطلقة؛ لإعادة إحياء الأمة من رماد التعاقد العقلاني، وبني أسطورة أمريكية جديدة تحرسها يد الغيب.
أما عن الجمهور فهو ينقسم إلى فريقين، الأول يذرف الدموع فخرا أمام هذا "المخلص"، وعلى رأسهم اليمين المسيحي، حيث تتعامل القيادات الإنجيلية المتطرفة مع ترامب بوصفه "مخلص الأمة من الخطيئة والليبرالية"، والآخر يكتم غضبا عارما تجاه برود القائد الذي قرر أن السياسة وحدها لا تكفي، قرر أن لا يكون هناك أدنى فرق بين البيت الأبيض والكنيسة البيضاء؛ فكلاهما يتحول إلى معبد تتردد فيه أصداء اسمه، تماما كما كانت تتلى أسماء الآلهة في كهوف الأمم الغابرة.
حل الوقت الذي نعي فيه أن ترامب لم يعد يطالب بالسلطة كغنيمة؛ فهو يقف ترامب اليوم فوق أنقاض السياسة، حيث تتلو السياسة صلوات الخوف، وتشن الحروب تحت رايات العصمة، وتدفن الديمقراطيات في قداسات الصمت والخنوع، في عالم ينهار فيه كل شيء إلا الجنون.