د.أيوب أبودية

ِمن هدم الأبنية الى قصف الخيام!

نبض البلد -
د. أيوب أبو دية

على مدار الأشهر الماضية، شهد قطاع غزة حملة عسكرية إسرائيلية غير مسبوقة من حيث الشدة والاتساع والتطهير العرقي. بدأ العدوان في أكتوبر 2023 بهجمات مكثفة استهدفت البنى التحتية المدنية، من أبراج سكنية إلى مستشفيات ومدارس ومراكز إغاثية، ما أدى إلى تدمير واسع للمدن الفلسطينية وتهجير جماعي للسكان. إلا أن المشهد لم يتوقف عند هذا الحد، بل تطور في الأشهر التالية إلى ما هو أشد قسوة: قصف خيام النازحين الذين فرّوا من مناطق الحرب ولجأوا إلى ما تصوروه "ملاذات آمنة".

هذا التحول من استهداف البنية التحتية إلى قصف أماكن النزوح المؤقتة يمثل لحظة فارقة في تكتيك الحرب ويطرح تساؤلات أخلاقية وقانونية وإنسانية خطيرة. فهو يعكس انتقالاً من سياسة "تفريغ الأرض" إلى سياسة "إنكار الملاذ"، حيث لا يُترك للمدنيين أي مكان آمن على الإطلاق.

يمكن فهم هذا النمط من التصعيد العسكري من خلال مقارنة الحالة الفلسطينية بتجارب أخرى في التاريخ الحديث، أبرزها الحملة الروسية على غروزني في الشيشان أواخر التسعينيات، ومجزرة سربرنيتسا في البوسنة عام 1995.

في غروزني، استخدمت القوات الروسية سياسة "الأرض المحروقة"، فقصفت المدينة بشكل عشوائي ودمرت معظم بنيتها التحتية، مما دفع السكان إلى الفرار من المدينة. لكن المأساة لم تنتهِ بالفرار، إذ استُهدفت بعض قوافل اللاجئين وقُصفت أماكن تجمع المدنيين بذريعة وجود مقاتلين بينهم. كانت الرسالة واضحة: لا ملاذ آمناً لكم، أينما كنتم.

أما في سربرنيتسا، فقد كانت المدينة مصنّفة "منطقة آمنة" تحت حماية الأمم المتحدة. ومع ذلك، اجتاحت القوات الصربية المدينة وارتكبت مجزرة بحق أكثر من 8000 مسلم بوسني، فيما فُصلت النسوة والأطفال ونُقلوا في ظروف مأساوية. كانت المخيمات المؤقتة مكتظة بالنازحين، ومع ذلك لم تُستثنَ من الاستهداف.

وفي غزة 2024 تم استهداف ممنهج للخيام بعد تدمير الأبراج والبنية التحتية في غزة، أُجبر أكثر من 1.5 مليون فلسطيني على النزوح نحو الجنوب، سيما إلى مدينة رفح، التي فُرضت عليها لاحقًا شروط "المنطقة الآمنة". نُصبت الخيام في أراضٍ مكشوفة، غالبًا دون مياه أو كهرباء أو خدمات صحية.

لكن ما لبثت أن تحوّلت هذه الخيام إلى أهداف مباشرة للقصف. في حوادث موثّقة، استُهدفت خيام في محيط المستشفى الأوروبي ومعبر رفح وحتى في مناطق أعلنتها إسرائيل سابقًا كمناطق "آمنة". قُتل مئات المدنيين معظمهم أطفال ونساء، وهو ما اعتبره مراقبون تجاوزًا خطيرًا لأدنى المعايير الإنسانية وحتى قوانين الحرب.

هذا التحول يُبرز واقعًا مريرًا أن العدوان لم يعد يميز بين مبنى أو خيمة، بين مقاوم أو نازح، بل أصبح يكرّس سياسة العقاب الجماعي الممنهج والقتل والترهيب.

وفقًا للقانون الدولي الإنساني، تُعدّ المخيمات المؤقتة للنازحين مواقع محمية لا يجوز استهدافها، إلا إذا استُخدمت لأغراض عسكرية، وحتى في هذه الحالة، يجب التحذير مسبقًا وضمان تناسب الرد. غير أن القصف الإسرائيلي جاء فجائيًا في معظم الحالات، واستُخدم فيه سلاح مفرط القوة، ما يثير شبهة "جرائم حرب" وفق تقارير منظمات حقوقية. وما زالت شبهات جرائم الحرب تتكرر!!!

إلى جانب القانون، هناك البعد الأخلاقي. فاستهداف من لا يملكون سوى قطعة قماش تحميهم من الشمس والريح هو انحدار غير مسبوق في قواعد الاشتباك. فالخيمة، في الموروث الإنساني، رمز للنجاة المؤقتة، والمساس بها هو تهديد لقيم الحياة والانسانية والشرف ذاتها. فما الدافع وراء هذا التحول؟

يرى بعض المحللين أن التحول نحو استهداف الخيام ليس فقط ناتجًا عن رغبة في إنهاء المقاومة، بل أيضًا لإحداث صدمة نفسية وجماعية لدى السكان، ودفعهم نحو الهجرة خارج القطاع، في تكرار لنكبة 1948 بنسخة حديثة. هذا ما يجعل المقارنة مع حالات التطهير العرقي الأخرى، مثل رواندا وكوسوفو، واردة جدًا في النقاش الأكاديمي والإعلامي الدولي.

فالقصف الإسرائيلي للخيام يحمل عدة رسائل: الأولى أن لا مكان آمن في غزة، والثانية أن الهدف لم يعد فقط ضرب البنية العسكرية للمقاومة، بل تفكيك النسيج المجتمعي الفلسطيني برمته. وهذه سياسة تتجاوز مفهوم "الأمن القومي" لتدخل في دائرة "إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي والجغرافي".

وبناء عليه، فمن غروزني إلى غزة، ومن سربرنيتسا إلى رفح، تتكرر مشاهد العنف ضد المدنيين تحت ذرائع متعددة، لكن النتيجة واحدة: معاناة بشرية هائلة، وخسائر لا يمكن تبريرها بأي منطق. إن قصف الخيام لا يجب أن يُفهم على أنه مجرد تطور تكتيكي في الحرب، بل هو نقطة تحول لا أخلاقية ولا إنسانية يجب أن تُحاسب عليها إسرائيل، وأن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته تجاهها. فهل يعقل أن يجري ذلك في هذا العصر؟