رغم كل شيء، ما زال حل الدولتين ممكنًا.

نبض البلد -

حاتم النعيمات

ليس منطقيًا أن يُختزل الحراك الدولي الراهن نحو تطبيق حل الدولتين في مجرد وهم أو دعاية سياسية كما يروّج البعض؛ فالكثير من الدول والحكومات تحركت بالفعل بعد أن أصابها شيء من الخجل الإنساني أمام المشهد الكارثي في غزة، حيث أُلقي المدنيون عُزّلًا أمام آلة الحرب الإسرائيلية، فاضطر العالم لمحاكمة شعاراته عن العدالة وحقوق الإنسان ذاتيًا، ومع كل ما يحيط بالمأساة من تعقيد، يبقى الأمل قائمًا بأن هذا الحرج الدولي قد يفتح نافذة صغيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

ورغم أن قيام الدولة الفلسطينية قد لا يكون على المدى القريب، إلا أن مؤشرات ملموسة بدأت تظهر، كاعتراف دول كبرى ومؤثرة بالدولة الفلسطينية، إلى جانب قرارات أممية وقضائية تؤكد الحق الفلسطيني وتدين الاحتلال، ويتقاطع هذا المسار مع حراك داخلي فلسطيني لإعادة ترتيب البيت السياسي، خصوصًا بعد تراجع النفوذ الإيراني وتلاشي أدواته داخل الساحة الفلسطينية، وهو ما قد يُسهم في إنهاء الانقسام. باختصار، فإن التقاء الاعتراف الدولي بسلطة فلسطينية موحدة وقوية، قد يرفع من احتمالية قيام الدولة الفلسطينية بصورة واقعية.

أما في إسرائيل، فثمّة نقاش داخلي بدأ يطفو على السطح رغم محاولات نتنياهو المستميتة لطمس الحقائق؛ فبعد السابع من أكتوبر، أقرّت المؤسسة العسكرية لأول مرة بوجود خلل استخباراتي وأمني عميق، وأطلقت لجان داخلية في الجيش والشاباك تحقيقات أقرت بعجز كامل عن توقع أو احتواء الهجوم. حتى "مراقب الدولة” بدأ تحقيقًا رسميًا رغم محاولات التعطيل القضائي، وسط ضغط شعبي متصاعد من المعارضة وعائلات القتلى المطالبين بلجنة تحقيق وطنية مستقلة.

إلا أن هذه المراجعات لا تزال محاصَرة بسلطة نتنياهو الرافض لتشكيل لجنة تحقيق رسمية، لذا، يبدو أن المساءلة الحقيقية لن ترى النور إلا بعد سقوط هذه الحكومة وانحسار اليمين المتطرف، إذ تتفق الأوساط السياسية والقانونية في إسرائيل على أن ما جرى في السابع من أكتوبر كان لحظة فاصلة قد تعيد تشكيل إسرائيل سياسيًا وأمنيًا لعقود مقبلة.

وفي الولايات المتحدة، بدأت التحولات تظهر داخل المؤسسة السياسية نفسها، بعدما فشلت محاولات تبرير المجازر في غزة أمام رأي عام بات أكثر وعيًا وتأثرًا بمشاهد الدمار، فقد بدأت الأصوات تعلو داخل الحزب الديمقراطي مطالبةً بقيام دولة فلسطينية كضرورة أخلاقية وسياسية لإنقاذ ما تبقّى من صورة أميركا كمدافع عن القيم الإنسانية. التيار التقدمي، بقيادة شخصيات مثل بيرني ساندرز وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، تجاوز حدود الخطاب الدبلوماسي ليتهم الحكومة الإسرائيلية صراحة بممارسة الفصل العنصري وخرق القانون الدولي، وهو خطاب ينسجم مع المزاج الشعبي الجديد داخل الجامعات وعند الأجيال الشابة.

نتيجة لذلك، يجد السياسيون الأميركيون الداعمون لنتنياهو أنفسهم اليوم في موقع دفاعي صعب (لذلك بدأوا بالضغط على حكومة إسرائيل)، بعدما تحوّل دعم إسرائيل غير المشروط إلى عبء أخلاقي وسياسي؛ فصور الدمار التي تملأ الشاشات الأميركية جعلت تجاهل حقوق الفلسطينيين أمرًا مستحيلًا. لقد عرّى نتنياهو واليمين المتطرف التناقض بين الخطاب الأميركي حول حقوق الإنسان وسلوكهم الفعلي بدعم حكومة تمارس ما يُوصف دوليًا بأنه "إبادة جماعية”، بل إن ترامب نفسه اعترف مؤخرًا بتراجع النفوذ الإسرائيلي داخل الكونغرس وأمر نتنياهو بإيقاف مشروع الضم.

إقليميًا، تشهد المنطقة تحولات متسارعة، فالأردن برز كقوة دبلوماسية تحظى بثقة الغرب، كما تعززت أدوار السعودية والإمارات في التأثير داخل دوائر القرار الأميركية بعد الزيارات الأخيرة لترامب. أما تراجع النفوذ الإيراني، فقد ساهم في إنهاء بيئة الميليشيات وعزز مفهوم العلاقات العربية الرسمية القائمة على التنسيق بين الدول لا الجماعات.

وعلى الصعيد الأردني، لا يمكن تجاهل أن موقف الدولة، بقيادة جلالة الملك، ثابت وواضح في دعم حل الدولتين، فالأردن يدرك أنه المتضرر الأكبر من غياب الدولة الفلسطينية والمستفيد الأكبر من قيامها. لذا، من غير المنطقي أن يتبنى الأردن طرحًا يُشكك في إمكانية تحقق هذا الحل، لأن بديله سيكون كارثيًا على أمنه واستقراره.

ومع ذلك، تظهر في الداخل الأردني بعض الأصوات التي تحاول ترسيخ فكرة استحالة قيام الدولة الفلسطينية لأهداف خبيثة، كالترويج لمشاريع التوطين أو تمرير خطاب القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي. وبعض المسؤولين السابقين يحاولون العودة إلى المشهد من خلال التشكيك في الرؤية الأردنية الرسمية التي تتمسك بخيار الدولتين.

أما حجة المستوطنات التي يتخذها البعض دليلاً على استحالة قيام الدولة، فهي غير دقيقة؛ إذ إن إسرائيل أخلت أكثر من 22 مستوطنة بعد انسحابها من غزة عام 2005، وكذلك فعلت في جنوب لبنان وسيناء، ولم تخضع أي من تلك المستوطنات للقانون المدني الإسرائيلي، بل ظلت تحت الحكم العسكري، وهو ما يؤكد أن صانع القرار الإسرائيلي نفسه يدرك أنها كيانات مؤقتة تنتظر تسوية نهائية.

إن العمل الدبلوماسي بطبيعته تراكمي، ولا يمكن أن يقاس بنتائجه الآنية، خصوصًا حين يكون في مواجهة كيان مدعوم من أقوى دول العالم. المهم هو مراقبة التحولات واستثمار كل متغير جديد في الاتجاه الصحيح. وفي الجوهر، يبدو أن العقلانية الفلسطينية والعربية والدولية بدأت تفرض نفسها بوضوح على المشهد، بما يعيد الأمل بأن حل الدولتين ما زال ممكنًا، وإن طال الطريق إليه.