نبض البلد - تسريب محاولة تجنيد طيار الرئيس الفنزويلي: قراءة أمنية واستراتيجية
	
أثار تقرير نشرته وكالة "أسوشيتد برس” الأميركية موجة واسعة من الجدل بعد كشفه عن محاولة مزعومة لوكالة أميركية لتجنيد الجنرال بيتنر فيليجاس، الطيار الشخصي للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بهدف تحويل مسار الطائرة الرئاسية إلى موقع يمكن فيه اعتقال مادورو بموجب مذكرات توقيف فدرالية أميركية. ووفقاً للتقرير، تمت المحاولة في جمهورية الدومينيكان، لكنها لم تنجح، إذ لم يُبدِ الطيار التزاماً واضحاً، رغم استمرار التواصل مع الطرف الأميركي لفترة طويلة. ورغم أن واشنطن لم تؤكد أو تنفِ الواقعة، فإن تسريبها إلى الإعلام فتح الباب أمام جدل يتجاوز حدود فنزويلا ليطال مفاهيم السيادة، والعمل الاستخباراتي، وموقع القانون الدولي في الصراعات الحديثة.
	
من الناحية المهنية، لا يمكن التعامل مع التسريب كحقيقة مؤكدة. فالمصادر التي استند إليها التقرير لم تُسمَّ بشكل واضح، واقتصر الكشف على "مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين” وبعض المعارضين الفنزويليين، وهو ما يفرض مقاربة حذرة. ومع ذلك، تبقى دلالات التسريب في حد ذاته أكثر أهمية من صحة تفاصيل العملية، إذ يكشف عن استخدام متزايد لأدوات غير تقليدية في إدارة الصراع بين واشنطن وكاراكاس.
	
أحد التفسيرات الممكنة هو أن التسريب جزء من عملية "حرب نفسية” تستهدف إرباك الدائرة المقربة من الرئيس الفنزويلي. نشر مثل هذه المعلومات، حتى دون دليل حاسم، يمكن أن يزرع الشك في ولاء القيادات العسكرية والأمنية، ويجبر النظام على إعادة ترتيب هياكله الداخلية، بما يستهلك طاقاته ويزيد من عزلته. في المقابل، قد يكون التسريب انعكاساً لصراع داخل الأجهزة الأميركية نفسها، خاصة إذا كانت العملية قد فشلت أو لم تحظَ بتغطية قانونية كافية، ما يدفع أطرافاً داخلية إلى تسريبها لتبرئة الذات أو للتأكيد على استمرار نهج الضغط القصوى على مادورو. وهناك أيضاً احتمال أن يكون التسريب رسالة غير مباشرة مفادها أن واشنطن ما زالت قادرة على الوصول إلى خصومها بطرق غير تقليدية، حتى دون تنفيذ أي عملية ميدانية.
	
من زاوية القانون الدولي، تثير هذه الواقعة إشكالية جوهرية تتعلق بمبدأ السيادة وعدم التدخل. فمجرد التخطيط لعملية تستهدف رئيس دولة أثناء ولايته، حتى لو لم تنفذ، يمثل خرقاً واضحاً للقواعد المستقرة في العلاقات الدولية. مثل هذه السابقة، إن صحت، قد تُستغل لاحقاً من قبل دول أخرى لتبرير سلوك مماثل، ما يضعف الأسس القانونية للنظام الدولي القائم. والأكثر دلالة هو التناقض الذي يظهر عند مقارنة هذا السلوك بموقف الولايات المتحدة من مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الصهيوني نتنياهو، حيث ترفض واشنطن الاعتراف بشرعية المحكمة، لكنها تستند في المقابل إلى مذكرات فدرالية لملاحقة رؤساء آخرين خارج أراضيها. هذا التباين يمنح خصومها مادة دعائية قوية لتصويرها كقوة انتقائية تستخدم القانون كأداة سياسية لا كمرجعية مبدئية.
	
في البعد الاستخباراتي، تكشف الحادثة – بصرف النظر عن صحتها – عن استمرار توظيف الاستخبارات كأداة رئيسية في إدارة الصراع الجيوسياسي. فمحاولة تجنيد شخصية على هذا المستوى تمثل مخاطرة عالية، إذ تُظهر سعياً لاختراق الحلقة الأمنية الأضيق حول الرئيس الفنزويلي. وفي حال كان التسريب مدروساً، فإنه يحقق هدفاً مزدوجاً: إرباك الخصم من الداخل، وإظهار قدرة استخباراتية رمزية للولايات المتحدة أمام حلفائها وخصومها معاً.
	
على المدى الاستراتيجي، قد يسهم هذا التسريب في تعميق أزمة الثقة داخل المؤسسة العسكرية الفنزويلية، ويبرر لمادورو اتخاذ خطوات أكثر تشدداً في تأمين محيطه الأمني وإعادة هيكلة القوات المسلحة. في المقابل، يوفر للولايات المتحدة ذريعة لمواصلة الضغط السياسي والإعلامي على النظام، مع الحفاظ على غموض مقصود في أدواتها، وهو ما ينسجم مع سياسة "الضغط الذكي” التي تمزج بين العقوبات، والاختراق، والتأثير النفسي.
	
في النهاية، سواء كانت محاولة تجنيد طيار مادورو واقعة حقيقية أو جزءاً من حرب المعلومات، فإن تسريبها بهذا الشكل وفي هذا التوقيت يعكس تحوّلاً أعمق في طبيعة الصراعات الدولية، حيث تتراجع حدود الفصل بين العمل الاستخباراتي والدبلوماسي، وتصبح التسريبات أداة استراتيجية لإعادة تشكيل الرأي العام والتأثير على موازين القوة. إنها ليست مجرد قصة عن طيار ورئيس، بل إشارة إلى عالم جديد تتقاطع فيه الاستخبارات مع الإعلام، وتُختبر فيه مفاهيم السيادة والشرعية في نظام دولي يتجه نحو مزيد من الغموض.