نبض البلد - د. أيوب أبودية
تعد استقالة الحكام الوطنيين بعد انتهاء مهامهم في السلطة أو عقب فشلهم من الظواهر النادرة في عالم السياسة، خاصة في الدول النامية، حيث تتميز تلك الاستقالات بالتزام الحاكم بمبدأ الانتقال السلمي للسلطة والاعتراف بنتائج عمله أو تحديات منصبه. ومن أبرز هؤلاء الحكام الذين اختاروا ترك السلطة بإرادتهم جمال عبد الناصر، الذي قاد ثورة 23 يوليو 1952 وأصبح رئيسًا لمصر، يُعد من أبرز القادة الذين تأثروا بفشل عسكري.
بعد هزيمة 1967 أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة، شعر عبد الناصر بالمسؤولية الكاملة عن الهزيمة وأعلن استقالته في خطاب شهير، معترفًا بفشله كقائد. إلا أن ضغوط الشعب المصري التي تجلت في مظاهرات ضخمة دفعت عبد الناصر إلى العدول عن استقالته واستمر في الحكم حتى وفاته في 1970.
وفي السودان، عبد الرحمن سوار الذهب يُعد مثالاً فريدًا في العالم العربي والإفريقي. تولى السلطة في السودان بعد انقلاب عسكري عام 1985، ولكنه التزم منذ البداية بإجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبعد عام واحد فقط من توليه الحكم، أوفى بوعده وسلم السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة في 1986، مما جعله رمزًا للاستقرار والديمقراطية في القارة.
وأنجيلا ميركل، التي شغلت منصب المستشارة الألمانية لمدة 16 عامًا (2005-2021)، تُعتبر واحدة من أكثر القادة تأثيرًا في السياسة الأوروبية والعالمية. اختارت عدم الترشح لولاية جديدة في 2021، معتزلة السياسة بعد مسيرة ناجحة في قيادة ألمانيا، حيث حافظت على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لبلادها. استقالتها كانت قرارًا ذاتيًا، معبرة عن رغبتها في التقاعد السياسي بعد فترة طويلة من الخدمة.
ومهاتير محمد، الذي حكم ماليزيا لفترتين منفصلتين، يُعد أحد أكثر الزعماء تأثيرًا في تاريخ بلاده. بعد فترة حكم أولى طويلة من 1981 حتى 2003، استقال بمحض إرادته، لكنه عاد إلى السياسة في 2018 بعمر 92 عامًا، ليقود حركة إصلاحية ضد الفساد. ومع ذلك، استقال مرة أخرى في 2020 بعد اضطرابات سياسية داخل الحكومة الائتلافية التي قادها، مُعترفًا بفشل حكومته في الحفاظ على الاستقرار السياسي.
تكشف هذه الأمثلة عن نماذج مختلفة من القادة الذين اختاروا الاستقالة بعد إدراكهم لفشلهم أو انتهاء فترة حكمهم. يتجسد في هؤلاء القادة التزامهم بالمصلحة الوطنية والانتقال السلمي للسلطة، وهي مواقف نادرة تلهم الحكام حول العالم لتقديم المصلحة العامة على البقاء في السلطة.
إضافة إلى الشخصيات التي ذكرتها، هناك أمثلة أخرى لحكام وقادة استقالوا طواعية لأسباب مختلفة تتراوح بين الاعتراف بالفشل أو التزامهم بالانتقال السلمي للسلطة. من بينهم جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة، التي أثارت استقالتها في أوائل 2023 اهتمامًا عالميًا. أرديرن قادت البلاد خلال عدة تحديات كبيرة، بما في ذلك هجوم كرايستشيرش الإرهابي وجائحة كورونا. وأعلنت استقالتها بشكل مفاجئ، قائلة إنها لم تعد تمتلك "ما يكفي من الوقود" لمواصلة القيادة، في تعبير عن الإجهاد الشخصي والسياسي بعد سنوات من الضغط الكبير. استقالتها أشاد بها الكثيرون باعتبارها تعبيرًا عن النزاهة والواقعية في القيادة.
ونيلسون مانديلا يُعد من أعظم القادة التاريخيين الذين اختاروا الاستقالة طواعية. بعد قيادته النضال ضد نظام الفصل العنصري وتوليه رئاسة جنوب أفريقيا في 1994، اختار مانديلا عدم الترشح لفترة رئاسية ثانية. في 1999، سلم السلطة لخلفه ثابو مبيكي، مفضلاً التقاعد السياسي والالتزام بمبادئ الديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة، مما عزز مكانته كرمز للنضال والحرية.
والبابا بنديكتوس السادس عشر (الفاتيكان)
في خطوة نادرة جدًا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، استقال البابا بنديكتوس السادس عشر في 2013 من منصب البابا، مشيرًا إلى تدهور حالته الصحية وعدم قدرته على أداء واجباته بشكل كامل. هذه الخطوة شكلت سابقة منذ 600 عام، حيث كان آخر بابا استقال قبل بنديكتوس في عام 1415. قراره أثار الكثير من الاحترام لتواضعه واعترافه بحدود قدراته.
وأيفو موراليس، رئيس بوليفيا من 2006 حتى 2019، استقال من منصبه تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية واتهامات بتزوير الانتخابات بعد فوزه بولاية رابعة. رغم أنه كان أول رئيس للبلاد من السكان الأصليين وحقق إنجازات كبيرة خلال فترة حكمه، إلا أن استقالته جاءت نتيجة لضغوط سياسية كبيرة ورغبة في منع المزيد من الاضطرابات والعنف في البلاد.
وديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، استقال في 2016 بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست). كاميرون كان قد قاد الحملة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، ولكن بعد فوز معسكر الخروج بالاستفتاء، اعتبر نفسه غير قادر على الاستمرار في قيادة البلاد في الاتجاه الذي اختاره الشعب، فاستقال بعد يوم من إعلان النتائج.
خلاصة القول ان هذه الأمثلة من القادة تعكس مدى قدرة بعض الشخصيات على اتخاذ قرارات صعبة بالاستقالة عندما تنتهي مهامهم أو يفشلون في تحقيق أهدافهم. جميعهم يشتركون في نقطة محورية وهي تقديم المصلحة العامة فوق مصالحهم الشخصية أو السياسية، مما يعزز قيم النزاهة والمسؤولية السياسية.