د. جمال الحمصي
في اقتصاد السوق الأردني، ومع التحرير المتزايد للأسواق والأسعار، تبقى المنافسة الفاعلة متطلب أساسي لتحقيق انضباط الأسواق وضمان عدم المغالاة في الأسعار وتأمين المرونة (نحو التخفيض) في أسعار السلع والخدمات، وذلك عند تراجع أسعار النفط العالمية أو عند توفير دعم حكومي للمنتجين لتمريره للمستهلكين. فالمنافسة هي شرط أساسي للحيلولة دون التعدي على رفاهية المستهلك، ومكون رئيسي للسياسة الصناعية الديناميكية، وآلية لامركزية لتحقيق كفاءة تخصيص الموارد وتعزيز الكفاءة الإنتاجية.
ومن هنا تؤكد الأدبيات الاقتصادية على أهمية إنشاء هيئة منافسة مستقلة وذات موارد بشرية ومالية كافية لموازاة احتكارات الأسواق الحرة ونفوذها. وقد أوصت وثيقة "الأجندة الوطنية" (2006-2015) بدراسة إنشاء هيئة عامة ومستقلة للمنافسة خارج وزارة الصناعة والتجارة وتزويدها بكادر وظيفي ذي كفاءة وخبرة للمساهمة في تفعيل قانون المنافسة الأردني العصري وفي تطويره، لكن يبدو أن سياسة التقشف المالي وتضخم أعداد الهيئات الحكومية المستقلة والأقل أهمية قد حالتا دون السعي لتنفيذ هذه التوصية الوجيهة.
وفي الاقتصاد الأردني، هنالك بعض الأنشطة الخدمية الهامة التي تتسم بضعف المنافسة السعرية الفعالة أو/ و بفرض الشروط على المستهلك أو المستفيد النهائي، وأهمها: الاتصالات المتنقلة والتأمين الإلزامي على المركبات والخدمات المصرفية الإقراضية طويلة الأجل.
وهذه الأنشطة الخدمية تتسم، بدرجات متفاوتة، بضعف القوة التفاوضية للعميل (أو المستهلك) والحاجة الدورية والضرورية للخدمة شهريًا أو سنويًا أو غير ذلك. لكن قطاع الاتصالات المتنقلة تحديدًا ينفرد عن غيره بوجود عدد محدود من الشركات لا تتجاوز ثلاث شركات حاليًا في هذا السوق عالي الانتشار (نحو 8 مليون مشترك في 2024)، وهي حالة سوقية تتسم بالتركّز العالي في سوق الاتصالات وتسمى علميًا ب"احتكار القلة" وبالتالي ينبغي أن تجذب اهتمام مديرية المنافسة في الأردن في دراساتها المتخصصة ومراجعتها السنوية للأسواق المحلية ذات الأولوية.
وهذه الأنشطة الخدمية الثلاث تتسم أيضًا بأنها تخضع لهيئة تنظيمية أو رقابية متخصصة. ويُفترض في هذه الهيئات، عمومًا، أن تحمي المنافسة أولاً، وتحمي المستهلك ثانيًا، وتشجع الاستثمار وتحمي المستثمرين ثالثًا. وهذا الترتيب قد يُراجع لصالح حماية المستهلك أولاً إذا كانت فرص تعزيز المنافسة المحلية ضعيفة لأي سبب من الأسباب، بما فيها الهيمنة وضيق السوق المحلي.
هذا المقال يركز على سوق الاتصالات المتنقلة في الأردن في المرحلة الراهنة، والذي يتسم منذ عامين بتجاذبات بلا ضابط تبدأ بمساعي وقرارات من إدارات الشركات الثلاث العاملة في هذا السوق برفع تسعيرتها الشهرية، وللمشتركين القدامى والجدد، بنسب عالية نسبيًا تقارب 10% وتتجاوز بالتأكيد معدلات التضخم السنوية.
فهل هذه القرارات والمساعي لشركات الاتصالات مبررّة؟ وما هي الجهات المختصة بهكذا ممارسات سعرية؟ هل التشريعات النافذة تسمح بمثل هذه الممارسات؟ وما هي التعديلات التشريعية والمؤسسية والهيكلية المقترحة لحل هذه التجاذبات من أصلها؟ وسنبدأ بمراجعة سريعة لوضع هذا السوق من حيث الإطار المؤسسي والتشريعي لهذا السوق، بالنظر إلى أنها تشكل الإطار العام لحوكمة المنافسة والسياسات التسعيرية للشركات الاتصالات الثلاث (زين وأورنج وأمنية).
في سوق الاتصالات المتنقلة الأردني، نلاحظ أن الإطار الاداري (المؤسسي) الحكومي المختص بحوكمة أسواق وأسعار سوق الاتصالات مشتت للأسف فيما بين هيئة تنظيم قطاع الاتصالات ووزارة الصناعة والتجارة (مديرية المنافسة) ووزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، ناهيك عن منظمات أخرى مُراقِبة مثل جمعية حماية المستهلك.
أما الإطار التشريعي فهو أيضًا متنوع ومشتت فيما بين: قانون الاتصالات الأردني المعمول به، وتعليمات حماية المنافسة في قطاع الاتصالات الصادرة وفقًا لقانون الاتصالات، وقانون المنافسة الأردني وتعديلاته الذي تنفذه وزارة الصناعة والتجارة.
فحسب قانون الاتصالات الأردني، يحق للشركات المشغلة تعديل الأسعار، لكن ضمن شروط، منها، أن يتم الإعلان عنها في صحيفتين يوميتين قبل شهر من تنفيذها وهو أمر لم يتم. لكن الأهم هو أن للهيئة أيضًا صلاحية تحديد أسعار وأجور خدمات الاتصالات المقدمة للمستفيدين في حال انعدام المنافسة أو ضعفها بسبب الهيمنة (المادة 12 من قانون الاتصالات).
ومن جانبه، يمنع قانون المنافسة الأردني رقم (33) لسنة 2004 وتعديلاته الاتفاق الضمني على رفع الأسعار بين شركات أي قطاع أو نشاط. وإذا تعذر إثبات الاتفاق الضمني لأي سبب، يتم اللجوء إلى نص صريح ضمن القانون ذاته لعام 2023 يعتبر شركة الاتصالات في وضع مهيمن إذا تجاوزت حصتها السوقية (40%)، ما لم تثبت أنها معرضة لمنافسة فعالة (المادة 5) تمنعها من فرض الأسعار. والوضع المهيمن هو الوضع الذي تكون فيه المؤسسة قادرة على التحكم والتأثير في نشاط السوق.
وقد تجادل شركات الاتصالات بأنها تستثمر وتوفر فرص العمل المنتجة، لكن هذه هي وظيفة شركات القطاع الخاص عمومًا، أما الاستثمار عالي التقنية والتكلفة في البنية التحتية للتطوير الرقمي (شبكة الجيل الخامس حاليًا)، فهذا الجدل يفرض التساؤل التالي: من يدفع كلفة الاستثمار والتطوير الرقمي؟ المستهلك النهائي؟ أم الشركات الخاصة؟ أم هيئة الاتصالات (من خلال تسعير الطيف الترددي)؟ أم وزارة المالية؟
أما مقترحات هذا الكاتب للمساهمة في علاج مشكلة التسعير في قطاع الاتصالات المتنقلة فهي كالتالي:
1. وضع سقف قانوني على نسب الزيادة السنوية لا تتجاوز بأي حال معدل التضخم السنوي العام أو معدل الزيادة في الأجور، أيهما أقل.
2. تعزيز المنافسة الفعالة وضمان حرية الدخول إلى سوق الاتصالات المتنقلة دون عوائق مصطنعة، بما في ذلك تسريع إمكانية وتقليل كلفة التحول بين المشغلين وتسهيل إمكانية نقل رقم الموبايل من شركة لأخرى بدون أية تعقيدات.
3. السعي الجاد لترخيص مشغل رابع كبير ومنحه حوافز مالية (الرخصة وتكلفة طيف الترددات) وحوافز تنظيمية واعتباره مؤشر أداء رئيسي.
4. دراسة هيكل سوق الاتصالات والتكاليف والأرباح لدى شركات الاتصالات من قبل لجنة مشتركة، مع المقارنة بالدول المشابهة والمتطورة في مستوى التنمية.
5. اعتبار وزارة الصناعة والتجارة هي الجهة الحكومية المختصة بتطبيق تشريعات المنافسة في قطاع الاتصالات منعًا للازدواجية وتعارض الصلاحيات وتشتتها وشللها. وقد يقول قائل، وأين دور هيئة تنظيم قطاع الاتصالات؟ دورها الأفضل يتلخص إلى جانب التدابير أعلاه في: (1) دعم وزارة الصناعة بالتقارير الفنية المتخصصة التي تعدها لمراجعة سوق الاتصالات، و(2) المشاركة الفاعلة ضمن "لجنة شؤون المنافسة" المُشكّلة حسب قانون المنافسة لسنة 2004 وتعديلاته من خلال عضوية الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات في هذه اللجنة. وهنا لابد من تفعيل هذه اللجنة غير الفاعلة حتى تاريخه.
6. تبني نهج استباقي لحماية المستهلك (الحماية المسبقة) في التشريعات ولدى الجهات الحكومية المختصة، وإعداد الأنظمة والتعليمات وأدلة المعلومات الكفيلة بتطبيق فاعل لقانون حماية المستهلك 2017.
تشجيع الاستثمار في مختلف القطاعات لا جدال في أهميته، لكن المطلوب تشجيع الاستثمار المنتج والتنافسي، دون أن يكون فائض المنتج وربحيته على حساب رفاهية المستهلك النهائي.