نبض البلد -
التوظيف الصحيح هو الذي يجعل الأمر إيجابي أو سلبي، حتى الدين هناك تطبيق صحيح له، وهناك فكر متطرف يخرج الدين عن مفهومه ويجعله سيفا مسلطا بأيدي بعض المتطرفين في الشرق والغرب، والعشائرية تحمل في طياتها الكثير من النواحي الإيجابية التي نعتز بها، ولكن نحن البشر من يسيء إستخدامها او توظيفها، ويجعلها اداة او وسيلة في يد بعض الذين إنحرف سلوكهم أو منهجهم او فكرهم، وهنا كلما كان بناء الإنسان صلبا وتعليمه قويا وأخلاقه متينة وقف في وجه هذا الإنحراف، وساهم بإن تكون العشيرة هي الإساس السليم الذي يبني المجتمع.
نعم الإنسان هو ابن بيئته واسرته وتعليمه ومجتمعه ودينه ، هذه حقيقة اساسية في فهم الإنسان ونشأته ومآله وتصرفاته وردود أفعاله، وعلى ذلك فلا بد من فهم هذه قبل تحديد الطريقة التي يجب أن نتعامل بها مع الإنسان، سواء كان فردا في مجتمع أو موظفا أو طالبا أو حتى لبنة في مجتمع ما، وبناء على هذا التحليل تتضح تلك العقلية نتعامل معها. هذه هي في الحقيقة خريطة ادركية كما يسميها د المسيري تقوم عليها عادات وتقاليد وتجارة وعلاقات انسانية وعلاقات عشائرية، وعلاقات مكانية وعلاقات زمانية وهذا القول ليس قولا فقط، بل هو شبكة علاقات كاملة.
وهذا تماما ما يحدث عندما تتلكم مع شخص من خلفية عربية أو خلفية أوروبية أو أمريكية، وحتى عندما تتكلم مع مسيحي عربي أو مسيحي غربي، هناك خريطة مختلفة لكل واحد منهم، بل حتى في المجتمع الواحد تتحكم هذه الخريطة في طريقة وألية ردود الأفعال ، فكل خلفية مهما صغرت تؤثر في طبيعة التعامل وردود الأفعال، حتى في العشيرة الواحدة في المكان الواحد تختلف ردة الفعل، والخريطة لهذا الإنسان حسب مكانه في هذه العشيرة، وبالتالي مكانه في هذا البلد صغر أو كبر، وبالتالي موقفه كعربي أو مسلم او اوروبي او امريكي او صيني او غيره على هذه الخريطة. وهنا مربط الفرس كما يقولون، لقد وضعتنا خريطتنا الإدراكية في عالمنا العربي في موضع لا نحسد عليه،
وتعاملنا مع بعضنا في نفس البوتقة تحدد هذه الخريطة جملة الولاء والإنتماء تجاه الأخر، وتتحكم بردود الأفعال ومداها، وهذا ما يعطي لأمة ما أو مجتمع ما قوة وتميز وحضارة ويسلبها من مجتمع أخر. ولنعد إلى مجتمع الصحابة الذي نعرفه جميعا ونعرف صفاته وردود افعاله وقصصه وبطولاته ، كيف تحكمت الخريطة الإدراكية التي بناها الرسول صلوت ربي عليه في نشأة أمة وبناء حضارة ، وانطلاقها من العدم أو قبلية بسيطة جدا او عشائرية اكثر تعقيدا، لتكون علامة فارقة بين الأمم وتكون هذه العصبة، هي النواة التي اطلقت حضارة من هذا الإنسان القبلي البسيط الى إنسان حضاري، وإستمرت بزخمها وتأثيرها حتى يومنا هذا.
ولكن لتدرك الفرق بين من يملك خريطة ادركية سليمة وخريطة ادراكية ناقصة، هو الفرق الذي أتكلم عنه بيننا وبين جيل الصحابة، او جيل الحضارة او ذلك الجيل الذي يصنع امة، ذلك الجيل المنضبط تماما بسلوكه وفعله وانفعاله، ويسعى نحو هدف اساسي واحد، تم وضعه لهذه المجموعة من البشر، سواء كان هذا الهدف يسعى إلى الخير كما كنا نحن في المجمل طبعا، أو الشر كما في حالة الغرب وأمريكا اليوم ، وقبلها قصص يحفل بها التاريخ .
وحتى يتضح الفرق الذي نتكلم عنه أيضا، وأهمية هذه الخريطة في قيام وتطور وسيطرة وقوة هذه الأمم او المجموعات البشرية ، خذ الفرق اليوم بين الشرق والغرب. بخلاف الحالة التي نعيشها نحن اليوم، فنحن ننطلق من الدين، ونفقد الخريطة والفاعلية والتفكير المحلي والإستراتيجي، عندما نغيب الدين ونحصر انفسنا في بيئات ضيقة جغرافيا. الغرب يأخذ قوته من تلك المنظومة التي تحكمه، وصهره في بوتقة واحدة، والتي تحدد سبل الاتحاد بين افراده.
وسبل صهر الافراد والطاقات والأفكار والمبدعين والمنتجين في منظومته، وجعلهم جنودا في سبيل تحقيق اهدافه، مع الحفاظ على استقلالية جزئية وانخراط كامل في الهدف الرئيسي، وقوته ليست في العدد ولا الموارد ولا الجغرافيا ولا الدين ولكنها في هذه الخريطة، التي تستطيع أن تشكل الفرد، ورد الفعل وتصهر الأفراد الجدد وتوظف الموارد وتصنع منها ما نراه اليوم .
بدون تحديد المفاهيم الرئيسية للأمة والوطن، وأن تنخرط العشيرة والفرد في الهدف العام للامة أو الوطن، تضيع الأمة وتضيع العشيرة، وخذ ما حدث في سوريا مثلا، كيف أصبحت الطائفة الضيقة أو العشيرة الضيقة سببا في إنحراف هذه الفئة وخروجها عن مسار وطنها، وأن تكون عبئا على الجميع، ويسعى الجميع للتخلص منها، بدل أن تكون لبنة صالحة تساهم في بناء الوطن، ويعود عليها وعلى الأخرين النفع.
إبراهيم أبو حويله ...