نبض البلد - التمويل الجماعي.. الآفاق والتحديات
بقلم/د. محمود عبد العال فرّاج
كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن منصات التمويل الجماعي، وخاصة في ظل انتشارها في الفترة الأخيرة، وبشكل محدود في الدول العربية، مما حدا ببعضها لإصدار قوانين ولوائح تنظم أعمال هذه المنصات، ومن ضمن تلك الدول ما أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة، بقرار من مجلس الوزراء في العام 2022م، قانون رقم 36، وهناك العديد من الدول الأخرى التي نظمت أعمال شركات التمويل الجماعي؛ لما لهذه المنصات من أهمية بالغة في تدوير وتحسين الدورة الاقتصادية للكثير من الاقتصاديات التي تعمل في ظلها، وكذلك ما هي المحاذير والمخاوف التي يطلقها البعض، والتخوف من هذه الشركات إن لم يجري تنظيم أعمالها بالشكل المطلوب.
هل يمكن لهذا النوع من التمويل أن يكون بمثابة بديل مقبول لأنظمة التمويل التقليدية؟ في حقيقة الأمر هناك فريقان؛ أحدهما مؤيد لفكرة منصات التمويل الجماعي، والآخر معارض لها، بل ويحذر من أنها قد تكون منصات لتمويل أنشطة مشبوهة، أو أنها قد تضر بالاقتصاد القومي في الدول التي تعمل في ظلها.
لذا كان من الواجب أن نبدأ في التعريف بأعمال هذه الشركات من بداية نشأتها وتطورها، وكيف يمكن أن تساهم بشكل إيجابي في الاقتصاد، وكيف يمكن التقليل من مخاطرها من وجهة نظر الفريق المعارض لأعمال تلك المنصات.
لعل ما دفعني لكتابة هذا المقال مناداة الكثير من المراقبين لاكتشاف بدائل للتمويل التقليدي، وبخاصة في الدول التي شهدت نزاعات عسكرية، أو حل بها كوارث طبيعية، بدلا من فرض مزيد من رسوم وضرائب حكومية لسد النقص في ميزانيات تلك الدول، الناتج عن جهود إعادة التعمير.
فهل يمكن أن تلعب تلك المنصات دورًا في هذا الصدد، أم أنها تكتفي بالدور المرسوم لها في تبني المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمشروعات الجديدة.
هل يمكن لهذه المنصات أن تلعب دورًا جوهريًّا في تبني الإبداع والابتكار، أم يكون دور الباحث عن أرباح هو الدور الذي لا يمكن تجاوزه، وإن كان واحدًا من أهم الأسباب التي صنعت هذه الفكرة، وكل تلك الأسئلة تدور في أذهان العديد من المهتمين بشأن مساهمة المجتمع في أن يكون هو اللاعب الرئيس في عمليات التنمية الاقتصادية وتطوير مسيرة الأعمال، بدلا من الاكتفاء بالجلوس في منصة المتفرج الذي رسم له.
إن فكرة التمويل المجتمعي أو الجماعي هي عملية جمع الأموال من عدد كبير من الناس لدعم مشروع أو مبادرة معينة، إذ يقدم عدد كبير من الأفراد مساهمات مالية صغيرة لدعم مشروع أو فكرة معينة يمكن أن يكون هذا الدعم في شكل تبرعات، أو قروض، أو استثمارات في أسهم، أو حتى مقابل منتجات أو خدمات مستقبلية من خلال منصات الإنترنت بحيث يتيح التمويل الجماعي للأفراد والمشاريع الوصول إلى رأس المال من مصادر متنوعة خارج القنوات التقليدية مثل البنوك أو المستثمرين المؤسسيين مقابل عدد من العوائد التي تتنوع بتنوع مصادر وشكل التمويل والاتفاق بين الممول والممولين والتي تتعدد أنواعها ما بين التمويل الجماعي القائم على التبرع وفي هذه الحال لا يستحق الطرف الممول اية عوائد مالية وعادة ما يستخدم هذا النوع في المشروعات الخيرية أو الاجتماعية التي تهم بعض قطاعات المجتمع.
في حين أن هناك مجموعة مختلفة من صيغ التمويل الجماعي التي تتوزع ما بين الصيغة المشار اليها في أعلاه أو في شكل مكافئات غير مالية وهذا النوع اكثر شيوعا في الشركات الناشئة الجديدة والمبدعين أو قد تكون صيغة التمويل الجماعي في شكل استثمار بحيث يقدم الممول لصاحب الفكرة أو المشروع راس المال المطلوب مقابل حصل الممولين بحصة من الشركة أو المشروع نظير مساهمتهم في تمويل المشروع في حين يتمثل الشكل الرابع من اشكال الجماعي في شكل علاقة بين مقرض ومقترض وفقا لاتفاق محدد بين الطرفين وهذا النوع الاخير تم تنظيمه في دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال مصرفها المركزي وفق تعميمه بالرقم 7 لسنة 2020 والذي حدد بموجبه شكل العلاقة وتنظيمها بين الطرف المقرض والطرف المقترض وحدد كذلك نماذج شركات التمويل الجماعي ما بين شركة كبيرة وهذه تستلزم شروط محددة من ضمنها راس المال وحجم الإقراض الذي يمكن تقديمه للمشروع وشركة أخرى صغيرة يتطلب وجود راس مال محدد وكذلك الحال وجود سقف محدد لتمويل المشروعات.
فصل هذا التعميم في كل الجوانب التي تغطي عمل شركات ومنصات التمويل الجماعي التي تعتمد على صيغة الاقتراض في تعاملها مع الطرف الطالب للتمويل ويستحق هذا التعميم مزيد من القاء الضوء عليه لأنه تعميم هام استطاع ان يفصل ويشرح آليات عمل هذا النوع من المنصات
تعود نشأة التمويل الجماعي إلى نماذج مشابهة تم استخدامها في الماضي، كجمع الأموال لبناء المشاريع المجتمعية أو دعم الفنانين.
ومع بداية ظهور عصر الإنترنت أصبح من الممكن القيام بجمع الأموال من عدد اكبر من الناس من خلال استخدام تلك التقنية الحديثة في ذلك الزمان وكان أحد أوائل المشاريع التي استخدمت الإنترنت لجمع الأموال لدعم ألبوم فرقة "مارليون” البريطانية في عام 1997، حيث جمع المعجبون الأموال لتمويل جولتهم.
من ثم بدأت المنصات المتخصصة بالظهور كمنصات التمويل الجماعي المخصصة لدعم المشاريع الفنية في العام 2003 منصة أرتيست شير.
ثم بدأ الانتشار الواسع لهذه المنصات في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مثل Kickstarter (2009) وIndiegogo (2008)، ما جعل التمويل الجماعي شائعًا بين مجموعة واسعة من المستخدمين والمشاريع وكان ذلك مدعاة الحكومات المختلفة للبدء في وضع الأطر التنظيمية لعمل هذه المنصات بعد ان حققت شعبية رائجة في أوساط العديد من المجتمعات العالمية كالولايات المتحدة الامريكية التي وضعت قانون جوبز في العام 2012 الذي أتاح للشركات بجمع الأموال عبر الانترنت من خلال اطر تنظيمية مرنة.
إذن التمويل الجماعي يمكن أن يكون طريقًا جديدا للتمويل من خلال إتاحة الفرصة لعدد كبير من أفراد المجتمع المهتمين والراغبين بتحسين مستوى الدخل أو الحالمين بالمساهمة في مشاريع تخدم القضايا المجتمعية وتساعد في إيجاد حلول مجتمعية من خلال مساهمة هؤلاء الأفراد في تمويل المشروعات المعروضة على المنصات المختلفة من خلال مساهمات صغيرة من خلال الاستفادة من انتشار الشبكة العنكبوتية على مستوي العالم بالإضافة الي وجود العديد من سائل التواصل الاجتماعي التي سهلت كثيرا من انتشار هذه المنصات، وساهمت على نحو مباشر في إيصال فكرة مغايرة عن التمويل الجماعي للمجتمعات والشعوب المختلفة وكذلك الربط بين أصحاب المشاريع الصغيرة أو المشاريع الإبداعية أو أفكار المشروعات غير التقليدية التي تواجه صعوبات كبيرة من أنظمة التمويل التقليدية التي وجدت في منصات التمويل الجماعي الحل الجذري للكثير من مشكلاتها مع البنوك وشركات التمويل المختلفة لذا أصبحت هذه المنصات بمثابة حل بديل لمؤسسات التمويل التقليدية في بعض القطاعات التي كانت غير مرحب بها، إلا أن تلك المنصات وفي الوقت الحالي لا تعتبر بديلا كاملا لتلك المؤسسات القديمة وانما قد تكون بديلا جزئيا ومكملا لها مستفيدًا من قدرة الإنترنت على الوصول إلى جمهور واسع.
فهو بديل ناجع ومرن للشركات الصغيرة والمتوسطة للحصول على التمويل اللازم للبدء في نشاطها أو التوسع في انشطتها ان كانت مشروعات قائمة فعليا دون الحوجة الي اللجوء الي القروض البنكية وتعقيداتها كما يمكن للتمويل الجماعي أن يساعد في تمويل الأفكار الجديدة والمشاريع الابتكارية التي قد تكون محفوفة بالمخاطر بالنسبة للبنوك التقليدية بحيث يتمكن رواد الأعمال من اختبار أفكارهم وجمع الأموال من قاعدة واسعة من المستثمرين المهتمين ويمكن لحاضنات الاعمال التي انتشرت في الكثير من دول العالم ان تلعب دورا محوريا هاما في هذا الصدد من خلال البحث في المشروعات المقدمة والنظر في محتواها وتحليلها بالشكل الصحيح الذي يفضي الي اختيار افضل المشروعات المقدمة وتقديم تلك المشروعات الي منصات التمويل الجماعي مع نشر ما قامت به الحاضنات من تحليلات الي الجمهور المستهدف لإضفاء مزيد من الثقة لتلك المشروعات، بما يمكن المستثمرين الافراد المساهمة في تمويل المشاريع التي تتماشي مع توجهاتهم الاستثمارية التي تتوافق مع رؤاهم للمجتمع الذي يعيشون فيه وهذا يساعد في زيادة مصادر التمويل للمشروعات المستهدفة وينوع من مصادر تمويلها.
كما أن المستثمرين الذين يطمحون في أن تكون استثماراتهم متوافقة مع احكام الشريعة الإسلامية قد يجدون في صيغ التمويل الجماعي (ما عدا صيغة التمويل بالدين أو القائم على علاقة بين مقرض ومقترض)، قد يجدون في تلك المنصات ضاءلتهم في البحث عن هذا النوع من الاستثمار المتوافق مع الشريعة الإسلامية.
ينادي المؤيدون لفكرة التمويل الجماعي بان هذا النوع من التمويلات وبالإضافة الي كونه بديلا جزئيا أو مكملا لمؤسسات التمويل التقليدية، إلا أنهم أيضًا يرون أنه له العديد من الفوائد التي تعود الي المستثمر والممول والمجتمع الذي تعمل به منصات التمويل الجماعي ويستشهدون على ذلك بان له فوائد متنوعة وملموسة تتمثل في ان يتمكن الممولين ومشروعاتهم يتمكنون من الحصول على تمويل سريع وسهل دون الحاجة لتقديم ضمانات كبيرة أو تلبية شروط صارمة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للممولين الاستفادة من انخراط المجتمع ودعمهم لمشروعهم، مما يزيد من فرص نجاحه وانتشاره أيضًا، وبالتالي فان التمويل الجماعي يعتبر بمثابة فرصة رائعة لبناء علاقات جديدة وتعزيز الثقة بين الأفراد والجماعات في المجتمع. الا ان المعارضين لهم راي آخر فهم يرون ان التمويل الجماعي يمكن أن يتسبب في بعض المشاكل المستقبلية في اقتصاد الدولة التي تتبناه إذا لم يتم تنظيمه وإدارته بشكل صحيح ومن بين هذه المشاكل المحتملة ان نقص التنظيم والرقابة الفعالة على منصات التمويل الجماعي إلى عمليات احتيال أو إساءة استخدام الأموال. هذا يمكن أن يضر بالمستثمرين ويؤدي إلى فقدان الثقة في النظام المالي كما انه قد يعرض المستثمرين لمخاطر عالية، خاصة إذا كانوا يستثمرون في مشاريع غير مضمونة أو بدون دراسات جدوى كافي فان فشلت هذه المشاريع فذلك يؤدي الي تسبب خسائر كبيرة للمستثمرين.
كما أنه وفي حال نمو التمويل الجماعي بشكل غير منظم، قد يؤدي ذلك إلى خلق نوع من عدم الاستقرار المالي في الاقتصاد والسبب في ذلك ان المؤسسات المالية التقليدية مثل البنوك تخضع لرقابة صارمة وتملك خبرات واسعة في إدارة المخاطر، في حين قد تفتقر منصات التمويل الجماعي إلى هذه الخبرات.
كما انه وفي بعض الحالات، يمكن أن يؤدي التمويل الجماعي إلى تضخم في الأسواق العقارية أو الأصول الأخرى إذا تم استخدامه بشكل غير منظم لتمويل الاستثمارات العقارية مما يؤدي إلى ظهور فقاعة عقارية أو زيادات غير مستدامة في أسعار الأصول كما ان يبررون معارضتهم لعمل منصات التمويل الجماعي بانه وفي حال اتجهت نسبة كبيرة من افراد المجتمع للتعامل مع تلك المنصات كمستثمرين أو ممولين فان ذلك يضعف من قدرة النظام المصرفي والمالي الموجود بالتوازي مع تلك المنصات نتيجة لعزوف الجمهور للتعامل مع الجهاز المصرفي التقليدي وبالتالي اهتزاز افتصاد الدولة بالكامل نتيجة فقدان الثقة في جهازها المصرفي.
إلا أن المؤيدين يردون على كل تلك النقاط بأن المنصات عمل في بيئة عمل قانونية منظمة من قبل الدولة من خلال القوانين والتشريعات واللوائح التي وضعتها لتنظيم أعمال منصات التمويل الجماعي.
كما أن الجهات الحكومية المسؤولة عن منح التراخيص لتلك المنصات وضعت من ضمن تلك التشريعات والقوانين آليات لمتابعة اعمالها ووضعت أيضًا العديد من الجزاءات والعقوبات التي قد تصل الي سحب الترخيص في حال تجاوزت الحدود المسموح بها.
كما أن الوعي المجتمعي بأهمية اعمال تلك المنصات قد وصل الي مرحلة النضج وبالتالي فان المجتمعات المختلفة قادرة على الحكم على تلك المنصات ومن انها قادرة على تلبي طموحاته والمجتمع وادواته قادرين على التحقق من جدية هذه المنصات من عدمه.
إذن العلة تكمن في تأييد واحد من الفريقين وانما تكمن في الإجابة على السؤال التالي وهو كيف يمكن ان يكون التمويل الجماعي أداة مفيدة لتمويل المشاريع وتعزيز النمو الاقتصادي، مع وجوب تنظيمه بشكل صحيح لتجنب المخاطر المحتملة، وتحقيق التوازن داخل الدورة الاقتصادية ما بين هذه المنصات والنظم المالي بشكل خاص والنظام المالي والاقتصادي للدولة بشكل عام آخذين في الحسبان الدور المحدود الذي تستطيع منصات التمويل الجماعي من لعبه في الاقتصاديات الوطنية فالتمويل الجماعي يمكن أن يكون بديلًا جزئيًا للبنوك في توفير التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، وخاصةً في المجالات التي تتطلب توافقًا مع الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك، لا يمكن أن يحل بالكامل محل البنوك التقليدية، بسبب الفروقات الكبيرة في حجم التمويل، التنظيم، الخبرة المقدمة، والأمان. بدلًا من ذلك، يمكن أن يكمل التمويل الجماعي دور البنوك، ويساهم في تحقيق تنوع أكبر في مصادر التمويل المتاحة للأعمال التجارية والمشاريع.