نبض البلد - يهل علينا شهر رمضان المبارك، شهر الرحمات والبركات والطاعات، وفى ظل نسائمه الروحانية، يجب أن تحفزنا الظروف القاسية التى تمر بها أمتنا العربية والإسلامية والعالم أجمع على التفكُّر فى أولوياتنا كأمة تحمل رسالة سامية،تبلغها للناس، وتنشر قيم الخير والفضيلة والمحبة بين أمم الأرض وشعوبها جميعًا، ليكون الشهر الفضيل فترة تدبر ومراجعة نهدف من خلالها إلى تنظيم بيتنا الداخلى وتصويب حالات القصور العديدة فى عطائنا.
إن أحكام الإسلام وأوامره تتضمن طاقات هائلة، وتفتح أمام الإنسان المجال لاستكتشاف الإمكانات الكامنة فى وجوده الفردى وفى نطاقه الاجتماعى والكونى، ومن هذه الأحكام عبادة الصيام التى تمنح الإنسان فرصة لإعادة اكتشاف إرادته الفردية وتوجيهها نحو الغايات الروحية والاجتماعية التى تحقق الخير العام فى كل مجالاته وتجلياته. والبحث فى العمق الروحى للصيام هو مدخل لاكتشاف حقيقة الإسلام التى غفل عنها كثير من الناس فى عصرنا الراهن الذى هيمنت فيه العولمة المادية الغربية ثقافيًا ورقميًا على عقول كثير من أبناء مجتمعاتنا فى الجنوب الكوني. والغاية المعلنة من الصيام هى التقوى، والتقوى جماع كل خير على المستويات كلها: الفردية والمجتمعية والكونية.
وإذا كان العمل الأصيل فى عبادة الصيام أن يمتنع الإنسان عما اعتاده من أنماط المعيشة اليومية؛ فإن ذلك العمل يعزز قدرتنا على التحرر من العبودية للحاجات، والتحرر من أسر المادة، ولنشعر بما يعانيه أشقاؤنا فى غزة والسودان وغيرهما من المجاعة وشظف العيش ونقص الغذاء والدواء بالإضافة إلى تلوث مياه الشرب، وغيرها من ألوان التجويع والقهر والحرمان مع تعسف واضح وإجرام ظاهر. وأمام هذا كله فإن التضامن العاطفى مع أهميته لم يعد كافياً خاصة فى ظل هذه السلوكيات العدوانية التى تجاوزت التوجيهات الدينية والأعراف الدولية والأحكام العقلية؛ لذا يجب أن ننتقل إلى العمل الجاد لرفع ما يعانيه أخوتنا من ضيم الطغاة والغزاة والغلاة.
لقد آن الأوان لنتحدث عن آلية تضامن كونى إنسانى فى وجه الطغيان والنزعة إلى الغزو والاحتلال، وفى وجه الغلاة أيًا كانت مشاربهم، وهدم جدران وخطوط الفصل بين الشرق والغرب وبين الأعراق البشرية والتى صارت أكثر صلابة من خط ماجينو.
إن ما يتعرض له أبناء فلسطين فى غزة هاشم، حيث يرقد شيخ الهواشم: هاشم بن عبد مناف، وفى القدس حيث يرقد الشريف حسين بن على، وفى بقية الأراضى المحتلة، من قتل وتجويع وتخريب، كل هذا الكدر والحرمان الذى نراه على الشاشات ونقرأ ونسمع عنه يجب أن يخرجنا من حالة الشفقة والتعاطف، إلى واقع عملى نمد فيه يد العون للمنكوبين والنازحين والمهمشين، ونمنحهم إلى جانب العون الغذائى، الرعاية الطبية والنفسية اللازمة لتخفف عنهم هول ما عاشوه؛ لأن التئام جروحهم هو بداية العلاج ورأب صدع خط الأزمات، ويستوى فى هذا العمل كل من تشابهت ظروفهم، وكل من تأثروا بالأزمات السياسية التى تناقض معانى الإنسانية.
فهل آن لنا أن ندرك اليوم أن ما ينفق على تمويل الترسانة العسكرية من مبالغ مالية باهظة لو أنفق جزء بسيط منه فى العطاء والأعمال الخيرية لعالجت التحديات التى تواجه الإنسان على الضفة المقابلة من البحر الأحمر.
إذًا، الصوم هو فقر اختيارى يستشعر فيه الناس معنى العدالة الاجتماعية،فالاختلاف بين الناس فى مستوياتهم الاقتصادية قد يفقدهم الشعور بالمساواة ويجعل كثيرًا من الأغنياء يغفلون عن الفقراء ومعاناتهم، فى حين يحقق الصيام هذه المساواة من خلال إعادة بناء الوحدة الشعورية وتقليل الفوارق الطبقية بين الناس.
ومما ينبّهنا إليه شهر رمضان هذه العلاقة الوثيقة بين العبادة والعمل، فالعمل هو ثمرة الإيمان وهو طاعة يحبها الله ويثيب عليها الإنسان؛ ومن هذا المنطلق يجب أن يكون الشهر الفضيل حافزًا لزيادة الإنتاج ومضاعفة الإنجازات، ويشهد على ذلك التاريخ الذى يخبرنا أن كثيرًا من الانتصارات والإنجازات حدثت فى هذا الشهر الكريم؛ فليس الصيام سلبية ولا نوماً ولا هروباً من العمل والتكاليف، بل هو عبادة روحانية تدفع إلى مزيد من العمل والبذل.
وإذا كان الإسلام ينادى فى أهله دائماً بضرورة التقدم من حال إلى حال أفضل منه، فى كل مجالات الحياة؛ فإننا يمكن أن نقول: إن رسالة الإسلام تقترن بمفهوم النهضة. ومن منظور الإسلام تبدأ النهضة عندما تولد فى الإنسان الإرادة الحرة الباعثة على تغيير واقعه، وهذه الإرادة تتطلب قفزة نوعية تخرجه من حالة شعور الإنسان بقصوره الذاتى إلى حالة أخرى تشعره بكرامته وعقله وقدرته على تجاوز الأنماط الفكرية والثقافية السائدة فى محيطه الاجتماعي. وفى هذا السياق تصبح عملية النهوض مشروعًا حضاريًا شاملًا لا يتوقف على مرحلة يشعر فيها المجتمع بالظلم أوالضعف، وإنما تمتد لتكون بمثابة غاية متجددة تشمل مسيرة التاريخ البشرى كله. والقيمة الاجتماعية الأساسية التى يعيشها الصائم ويختبرها فى كل أحاسيسه وجوارحه هى قيمة التضامن الاجتماعى، والتى أضحت اليوم ضرورة اجتماعية تزداد إلحاحًا فى وقتنا الراهن الذى انكشفت فيه هشاشة قيم الرأسمالية النفعية وانحيازه المتواصل لمشاريع الهيمنة.
إن غاية الحياة أن نعمل من خلال النهضة من أجل مستقبل أفضل للأجيال القادمة، ومن هنا نرفض سياسات الإماتة التى تُمارس على أهلنا فى غزة، الذين لم ولن يقبلوا بها رغم ما يُمارس عليهم من قتل وتجويع وتدمير لبيوتهم ومساجدهم وكنائسهم ومستشفياتهم وتراثهم الحضارى، وكأنى بهم يطبقون الحديث الشريف: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل)، ويعلموننا ألا يأس مع الأمل، رغم أن اليأس قد يدخل نفوسنا بسبب الألم. وعلينا أن نتذكر دومًا أن القضية الفلسطينية، هى قضية العرب والمسلمين جميعًا وهى قضية شعب مظلوم يبحث عن حريته واستقلاله منذ ست وسبعين سنة.
يجب أن يحثنا شهر رمضان على فهم الأصول فى المعاملات، وأن تحقيق الانتصار يبدأ بالتغلب على النفس، والعمل على ترتيب البيت الداخلى، والسير على طريق الغيرية الفعَّالة التى تقدِّم الصالح العام على المصالح الخاصة الضيّقة، وتسعى لخير العالمين، وأذكِّر هنا بالزكاة التى أصبحت تسهم فى جزء كبير من تمويل المنظمة الدولية للاجئين، لا سيما مع انتشار التطبيقات الإلكترونية التى تمكِّن الأفراد من دفع زكاتهم إلكترونيًا الأمر الذى يسهِّل إيصالها إلى المستحقين.
أخيرًا، يذكرنا شهر رمضان بالعلاقة المباشرة مع الخالق، وبعظمة المناشدة والمناجاة(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)، كما يذكرنا بألا ننسى الفضل والإحسان بيننا (وأحسِن كما أحسن الله إليك). أسأل الله الجواد الرحيم أن يحمل شهر الرحمات وقف أنهار الدم الجارية فى فلسطين الحبيبة، بارك الله لكم فى شهر رمضان وتقبَّل طاعاتكم.