البرفسور عبد الله سرور الزعبي
في مسار الأمم، لا يُقاس التحول بالاختراعات بقدر ما يُقاس بالأجيال التي تعيد تعريف الإنسان. لكل جيل بصمته، لكن لم يأتِ جيل أحدث انقلابًا في معنى الوعي كما الجيل الحالي.جيل لا يشبه من سبقه، وُلد داخل الشاشة، ولا ينتظر تفسيرًا للحياة من أحد، ومعرفته ليست المعرفة المتوارثة، ولا يبني ذاكرته على الورق بل على الضوء، ووعيه من الخوارزميات، ولديهم تدفّقٍ لانهائي من البيانات، والمعلومات لديهم ليست من الكتب، بل من المقاطع السريعة، لا من السرد الطويل، ومن الشبكة المفتوحة، والحدود لديهم ليست الجغرافيا، بل حدود الشبكة. وهذا الجيل أطلق عليه البعض مسمى جيلZ، ولا أدرى لماذا أطلق عليه هذه التسمية، كأخر حرف في الأبجدية، مع انه سيكون أول أسطر في كتابٍ جديد من الحضارة الإنسانية.
إنه جيل التطبيقات وفوضى المعلومات، جيلٌ لا يعترف بالخطابات التقليدية، ولا بالشعارات الكبرى كالمصالح القومية، كما كانت تُروى في الخطابات، ولا بإرشادات الوعّاظ أو السياسيين، ولا تحكمه الروابط العرقية أو القومية. فكل رواية لديهم قابلة للجدل، فالعالم بالنسبة له مفتوح، وعابرٌ للحدود بلا جغرافيا، وبلا جدران، وبلا أسرار، وبلا احتكار للمعلومة، ويعيش اللحظة الكونية بكل تفاصيلها.
حين قال مارشال ماكلوهان "نحن نصنع أدواتنا، ثم تصنعنا أدواتنا"، لم يكن يدرك أنه يصف مستقبلًا سيتحوّل فيه الإنسان إلى كائنٍ يعيش داخل وسائطه، صنعته الشاشة منذ الولادة، ويتنفس الواقع الافتراضي كما يتنفس الهواء. ذاكرته ليست من الحكايات العائلية ولا من المناهج، بل من "الجيجا بايت"، ولا مرتبطة بزمان او مكان كمفاهيمنا، بل بفيضٍ متسارع من المعلومات الفورية، حيث تختصر المعرفة في ومضاتٍ سريعة تُغني عن السياق وتفقد المعنى، وتُستهلك قبل أن تُفهم.
لكن كثافة المعرفة ليست عمقًا. فكما قال بودريار "الخطر ليس في الجهل، بل في امتلاء الوعي بالمعلومات الفارغة. هنا تكون المعضلة امام هذا الجيل، معرفة ضخمة، لكن بلا بوصلة لتمنح المعرفة مغزاها، وتجاوز فكرة التلقين، لكنه لم يجد البديل الذي يربط بين العلم والقيم. لذلك فإن الخطر لا يكمن في ذكائه، بل في الفراغ القيمي الذي قد يبتلع وعيه.
انهجيل السؤال والشكّ والارتياب، جيلٌ يملك المعلومة قبل أن تُقال له، لكنه يفتقد الرابط الثقافي الذي يجمعه بالأمة.
نيتشه يلخص روح هذا الجيل بقوله "العقول الحرة لا تؤمن بالحقائق المطلقة، بل تبحث عن معناها". وهذا الجيل لا يقبل المسلّمات، لأنه يملك المعلومة قبل أن تُقال له، ويقارن بين آلاف المصادر قبل أن يصدق رأيًا واحدًا. القوة هنا ليست في ذكائه فحسب، بل في استقلاله الجذري عن المرجعيات المتعارف عليها كالعائلة واللغة والدين، والمعلم، والرموز الفكرية والتاريخية.
هذا الجيل يعشق الحرية، لكنه يواجه فوضاها، لعدم وجود معايير تضبط اندفاعه. التحرر المعرفي، وإن بدا مدهشًا، الا انه يضع المجتمعات أمام معضلةٍ حقيقية، ويكشف هشاشة خطيرة، حرية بلا ضفاف، ووعي بلا جذور، وذاكرة بلا تاريخ. كما يقول روسو "الحرية دون وعي تتحول إلى عبوديةٍ من نوعٍ آخر". وهذا تطبيق مباشر لواقع الحرية غير المسبوقة في الوصول إلى المعلومة لدى هذا الجيل، لكنها أصبحت عبودية للخوارزميات، التي تُعيد تشكيل الوعي وفق ما تريد، او كما أريد لها ان تكون ممن أعدوها مسبقاً.
وهنا يكمن الخطر، ليس في الذكاء، بل في الانفصال عن الجذور، وأنهاء فكرة المرجعية الثابتة، وفقدان الرابط الثقافي، حيث حلت مكانها الذات الرقمية. هنا تكمن الخطورة، امتلاك قوة المعرفة دون ضوابط، والعيش في بحرٍ من المعلومات دون بوصلةٍ ثقافية أو وطنية.
وهو ما نبّه له أركون حين قال "الحرية الحقيقية لا تعني التحرر من السلطة فقط، بل امتلاك القدرة على استخدام العقل وسط فوضى المعاني". وهذا ما يواجه جيل اليوم، حريةً غير مسبوقة في تاريخ الإنسان، الا ان امتلاكها لا يعني القدرة على إدارتها.
ويبقى السؤال كيف نوجّه جيلًا لا يعترف بالتوجيه؟ وكيف نواجه الحرية المعرفية المطلقة؟ وكيف نحافظ على وحدة الوعي الجمعي في زمنٍ تتعدد فيه الحقائق بتعدد الخوارزميات ومرجعياتها؟
هنا يحضر مالك بن نبي في فكرته الجوهرية عن "قابلية النهضة"، التي لا تتحقق إلا بوجود وعيٍ جمعي مشترك، يستند إلى منظومةٍ قيمية متماسكة، وبخلاف ذلك، يتحوّل الانسان الى كائنٍ معرفيٍّ بلا جذور، وعندها تفقد الامة قدرتها على النهوض، مهما امتلكت من تكنولوجيا ومعرفة.
الخطر الأكبر الذي نواجه اليوم، أمام هذا التحول السريع، ليس في جيل الحداثة ذاته، بل في عجز النخب عن التعامل معه وفهمه. فما تزال الكثير من المؤسسات تدار بعقلية الترضيات والمحسوبيات والشلليه. وهنا تتجلى أزمة العقلٍ الإداري، الذي لا يؤمن بأن المستقبل يحتاج إلى من يفكر بطريقة مختلفة. جيل يملك المعرفة أكثر مما يُسمح له أن يفعل، ونخب لا تفهم العالم الذي تديره، وتطالبه بالتغيير، لكنها تمنع أدوات التغيير من الوصول إلى القرار. وكما قال الجابري "الأزمة ليست في الجيل الجديد، بل فيمن يفكرون بعقولٍ قديمة في زمنٍ جديد".وهكذا نصنع بأيدينا فجوةً خطيرة بين جيلٍ يعيش في المستقبل ونخبٍ ما زالت تفكر في الماضي.
نحن اليوم لا نعبر من مرحلة إلى أخرى، بل من عصرٍ إلى عصر. مرحلة العبور الحضاري هذه، لا تحتاج إلى قرون، بل إلى بضع سنوات فقط. فنحن اليوم نعيش مع جيل يتعلم وينسى، ويبدّل أدواته، ويتعلم من جديد بسرعة تفوق قدرة مؤسسات الدولة على المواكبة. كما قال ألفين توفلر "الأمي في القرن الحادي والعشرين هو من لا يستطيع أن يتعلم وينسى ويعيد التعلم".
في الأردن، لدينا جيلٌ شابّ يملك الذكاء والانفتاح والوعي العالمي، يقارن وطنه بالعالم لا بدول الجوار، ويتفاعل مع المعرفة لحظة بلحظة. وفي المقابل، تقف بعض المنظومات المؤسسية تعمل بمنطق الحذر والبطء والاغلاق احياناً، وحظر التطبيقات احياناً اخر، وبعض القيادات التنفيذية والاعلامية تعيد إنتاج الماضي. وبالتالي فان فجوة الثقة اليوم مهددة بالتحول إلى قطيعة معرفية إذا لم نتحرك فورًا. الجيل الجديد لا ينتظر، ولا يقبل البيروقراطية، ولا يتحمل بطء الإجراءات الرسمية.
التحول نحو الدولة التكنولوجية الذكية لم يعد خيارًا، بل ضرورة وجودية. دولة تستثمر في الذكاء الاصطناعي والتعليم الرقمي والمعرفة كأركانٍ للاستقرار، لا كترف فكري. والخوف ليس من الثورة الرقمية، بل من التأخر عنها. فإما أن نستعد لهذه الحقيقة، او أن يسبقنا هذا الجيل، بينما نحن ما زلنا نناقش ببطء معنى التحول الرقمي، والتعليم الذكي، والعمل عن بعد، وكأننا نحاور الماضي لا الحاضر.
جيل اليوم، الذي نراقبه،لا يمكن قيادته بالقوة ولا بالإقناع الشكلي، بل بالقدوة والمصداقية والشفافية، فبناء الإنسان شرط النهضة المنشودة. فبناء الثقة مع هذا الجيل تقوم على أساس الحقيقة، والشراكة لا الوصاية، والعقل لا الشعارات. فالصدق هو اللغة الوحيدة التي يمكنها أن تبني جسور الثقة بين الأجيال، لأن وقت الغموض انتهى، والمعلومة أصبحت ملكًا للجميع.
فبناء الإنسان في هذا الزمن، يعني بناء وعيٍ رقميٍّ أخلاقيٍّ نقديٍّ قادرٍ على التمييز بين الحرية والفوضى، وبين المعلومة والمعرفة، وبين التمرد والوعي.
فالمستقبل لا ينتظر المترددين، ومن يخشى التغيير، ولا يرحم من يقف على الرصيف يراقب التحولات دون أن يشارك فيها.
السؤال اليوم، هل جهزنا أنفسنا لمثل هذا؟ وهل طوّرنا التعليم بما يوازي حجم الوعي الرقمي؟ وهل لدى قادة المجتمعات الفكرية القدرة على محاورة جيل الحداثة؟ وهل غيّرنا الخطاب الديني والإعلامي والسياسي لنتحدث بلغت هذا الجيل؟
الجواب المؤلم هو لا. فالمشكلة، اليوم في بعض القيادات التنفيذية، التيما زالت تخاطب بعقلية العقود الماضية، والغير قادرة على الاقناع، والبعض منها أعاد إنتاج الأزمات بدل حلها، والمواطن الأردني لم يعد يتقبل وعودًا بلا أفعال، ولا تدويرًا لوجوه تتحدث بلغة للإعلام متناقضة مع لغة الجلسات المغلقة، والتي لم تعد مغلقة.
الملك دائماً مستعد، فقدم الأوراق النقاشية، وحدد طريق الإصلاح، وفتح الباب أمام الدولة الحديثة. لكن تطبيق الرؤية الملكية، يتطلب أدوات تنفيذية، تحمل الكفاءة والولاء الحقيقي للوطن والملك، لا الى من تعود المهادنة والمجاملة، وتبديل الولاءات حسب المصالح، ومن يكررون خطابًا باردًا ومنفصلًا عن الواقع.
فالمطلوب هو تطبيق مباشر وسريع لما ورد في الأوراق النقاشية للملك، وتجاوز البيروقراطية فعلاً لا قولاً، واحداث تغيير جذري لبناء اقتصاد وطني واقعي يضع المواطن في قلب المعادلة بدل من وعده بالأمنيات، واستعادة هيبة مؤسسات الدولة امام الجميع.
أما ولي العهد، فهو بوابة الأردن إلى المستقبل، وجسر الانتقال نحو دولة رقمية منتجة للمعرفة، تدرك أن بناء الإنسان الرقمي الواعي هو أساس الدولة الحديثة. وهو الأكثر ادراكاً ان مستقبل الدولة واستقرارها في عصرٍ كهذا يتطلب سباقًا مع الزمن، ولا يوجد ترفًا في الوقت. وهنا تبرز الحاجة الى مشروعٍ وطنيٍّ قادرٍ على استيعاب طاقات الشباب، وتحصين وعيها، وتوجيهها نحو الإبداع، للولوج الى مستقبلٍ رقميٍّ قادرٍ على حماية استقرار الدولة.
اليوم، إذا لم نُحسن فهم هذا الجيل والتعامل معه بعقل مفتوح ورؤية تكنولوجية عميقة، فإننا لن نخسر أبناءنا فقط، بل سنخسر المستقبل نفسه. اننا اليوم نقف امام اول عنوانٍ لعصرٍ الحقيقة الصارخة، الذي لا يعترف بالرمادية ولا يخاف من السؤال، ويختبر قوة وصدق مؤسسات الدولة، بمدى قدرتها على التجدد والانفتاح.
فاللحظة لا تحتمل التردد أو الإرجاء في ظل التحولات المتسارعة. فالأردن قادر على التقاط زمام المبادرة، وأن يتحول من دولة تحافظ على الاستقرار إلى دولة تصنع المستقبل بثقة وعزيمة.
والسؤال الذي يواجهنا اليوم، هل نملك الشجاعة لقول الحقيقة في زمنٍ صار فيه التضليل عديم الجدوى؟ وهل نملك الجرأة لكي ننتقل من الوقوف على الرصيف إلى صُنع المستقبل؟