متى يأتي دور الأردن؟

نبض البلد -

حاتم النعيمات

شهدت المنطقة تغيّرات عميقة ومؤسفة بعد السابع من أكتوبر، وكان من أهمها تمكّن إسرائيل -للأسف- من إثبات عدم صحّة الكثير من الافتراضات التي اعتاد كثير من العرب على وضعها عند الحديث عن المواجهة معها، مثل: إسرائيل لا تطيق خوض الحرب لفترة طويلة، وها هي تخوض اليوم حربًا طويلة ضد قطاع غزة منذ حوالي الـ21 شهرًا. أما الافتراض الآخر، فهو أن إسرائيل لا تستطيع فتح عدّة جبهات متزامنة، وقد تعاملت إسرائيل مع أكثر من أربع جبهات في نفس الوقت منذ السابع من أكتوبر. صحيح أن الدعم الأمريكي هو الذي أظهر إسرائيل بهذا الشكل، لكن في النهاية، فإن الحواجز (هي ذاتها افتراضات العرب) قد كُسرت لدى الإسرائيليين، ودخلت الحربية الإسرائيلية إلى عصر جديد.

في المقابل، فقد ثبت أيضًا أن إسرائيل ليس لديها قدرة على الاحتفاظ بمساحات كبيرة من الأراضي خارج الكيان الحالي الموجود في فلسطين؛ فقد كانت الفرصة سانحة أمامها لاحتلال ما تشاء من لبنان بعد إضعاف حزب الله، ومن سوريا بعد حلّ الجيش السوري، لكن إسرائيل اكتفت بنقاط استراتيجية في كلا البلدين لضمان معادلتها الأمنية (من وجهة نظرها). دعك بالطبع من المحددات التي تفرضها الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي على حركة إسرائيل. لذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل ستحصل إسرائيل على فرصة أفضل من هذه الفرصة للسيطرة على الأراضي العربية خارج نطاق كيانها الحالي؟

إسرائيل لا تستطيع بأي حال من الأحوال إدارة مساحات كبيرة يقطنها عشرات الملايين من العرب الكارهين لها، وعمق الكيان السياسي والعسكري الإسرائيلي يعلم ذلك. لذلك، فإن الافتراض بأن هذه الدويلة قادرة على إقامة وإدارة مشروع (من الفرات إلى النيل) هو أمرٌ مضحك جدًا. ولا أقول هنا إن هذا الشعار غير مطروح في إسرائيل، بل هو مطروح ولكن من قبل بعض تشكيلات اليمين الديني المتطرف الواهم، تمامًا كما هو الوضع عند العرب (أو أي شعب) من ناحية طرح شعارات حالمة وغير واقعية. بالمناسبة، فلا أستغرب أن يستخدم العرب شعار (من الفرات إلى النيل) أكثر من الإسرائيليين أنفسهم، نتيجةً للحاجة إلى أوسع رقعة استنفار محيطة بإسرائيل.

مؤخرًا، وخصوصًا بعد الضربات الإسرائيلية على إيران، أصبح من الطبيعي أن يردد البعض في الأردن أسئلة مثل: متى يأتي دورنا؟ أو: هل نستطيع الدفاع عن أنفسنا إذا نوت إسرائيل الهجوم علينا؟ أو: هل أصبحنا مكشوفين للعدو بعد انهيار أذرع إيران في المنطقة؟ والكثير من الأسئلة في هذا السياق. والمقصود من هذه الأسئلة هو أحد الأمرين بتصوري: أولًا، مخاوف محقّة مشروعة، وهذا طبيعي من قِبل مَن تعرّض لسنوات إلى موجات متواصلة وقوية من البروباغندا الخادعة ضد صورة وطنه، وثانيًا، كلام حقّ يُراد به باطل، لإظهار الأردن كدولة ضعيفة وهشّة يمكن أن تكون لقمة سائغة وذلك لتسويق الكثير من المشاريع وأهمها مشروع إيران ومشروع إضعاف الأردن في عيون أبناءه ليكون جاهزًا لأي عملية تصفية في فلسطين.

صحيح أنّنا اعتدنا على الكثير من المواقف السياسية التي تُتخذ من داخل الأردن، وتطالب الدولة بإهمال مصالحها، والقيام بدلًا من ذلك بواجبات كلّ مَن فشل في مواجهة مسؤولياته، لكن هذا التعوّد لا يعني ألا نُقِرّ بأن هذه المواقف خطيرة في بُعدها الإعلامي النفسي على الناس. فمثلًا، لدينا من يعتقد ويُروّج إلى أن الأردن لا يُدرك خطورة إسرائيل، ولا يفهم مدى قدراتها. بالتالي، يمكن لإسرائيل في أي لحظة السيطرة على هذا البلد، وهذا بالذات يحتاح لأن يقرأ على سبيل المثال التقديرات الإسرائيلية الصادرة عن المعهد الإسرائيلي للبحوث الأمنية (INSS) لتقديرات المواجهة مع الأردن ليتأكّد من أن إسرائيل ذاتها تخشى هذه المواجهة، ليس بالتفوّق التكنولوجي بطبيعة الحال، بل بحكم تجربتها التاريخية، ودرايتها بضعف عمقها الاستراتيجي، ومعرفتها بما ستواجهه عسكريًا على أكبر خط مواجهة لها مع محيطها. إسرائيل ذاتها تعلم -والبعض هنا لا يعلم أو يتظاهر بذلك- أن العشائر الأردنية ليست مجرّد تنظيمات اجتماعية، بل هي أكثر من ذلك، وأن عداء هذه العشائر معها عميق، حتى بوجود معاهدة السلام التي وقّعتها الدولة نتيجةً لظروفٍ مُعتبرة، أهمها أن أصحاب القضية، وأكبر دولة من دول الطوق، قد سبقاها في التوقيع على مثيلاتها. وبالمناسبة فالتعريف الأردني لهذه المعاهدة واضح: هي اتفاقية سلام مع عدو؛ والسلام لا يُقام مع الأصدقاء بل مع الأعداء.

إذن، من المعيب أن يُسقط البعض ما حدث مع دولٍ متهالكة ومليشيات في المنطقة على الأردن الذي يملك قوّةً عسكرية، دبلوماسية، وسياسية وشعبية يدركها العالم كله. ومن المزعج أن يقبل أي أردني بهذه الطريقة الملتوية لتصغير أكتاف وطنه. لذلك، فهذا الخطاب لا يمكن له أن يستمر إذا أردنا أن تكبر الأجيال القادمة في بيئة فكرية وسياسية صحيّة، تساعدها على بناء مستقبلٍ جيّد يرفع فرصة البناء والتحرير بعيدًا عن الأوهام والافتراضات المريضة.