الشارقة -الانباط
تأكيداً لدوره الداعم للمبدعين والفنانين من كل أنحاء العالم، وترسيخاً لحضوره كمنصة تستقطب تجارب فنية من ثقافات ورؤى واشتغالات مختلفة، كرّم بينالي الشارقة الفنانين الفائزين في دورته الرابعة عشر «خارج السياق» وهم: الفنانتان أوتوبونغ نكانغا وإيميكا أوغبوه الفائزتان بالجائزة الأولى عن عملهما «الشيخوخة تدمر الحلم فقط لتستعيد إزميل الماضي الصلب»، بينما حصل الفنانون: محمد بورويسة، وشيزاد داوود، وفان ثاو نغوين، وتشيو تشيجي على تنويه خاص من لجنة التحكيم، والتي تكونت من القيّم أوكتافيو زايا، والبروفيسور والمفكر هومي بابا، والقيّمة سولانج فركاس.
تستكشف أعمال الفنانين الفائزين عبر مواضيعها وتوجهاتها ثيمة البينالي الرئيسية «خارج السياق»، وتحاول عبر توظيفها لتقنيات ووسائط فنية متعددة، أن تناقش حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان في ظل الإملاءات والسياقات التي تفرضها الصور والأفكار المبثوثة عبر وسائل الإعلام والمؤسسات ومراكز صنع القرار، وتسعى لاقتراح واجتراح وسائل للخروج عن جملة السياقات المكرسة تاريخياً والتي كان لها نتائج مدمر ليست فقط على حياة الإنسان، وإنما أيضا على البيئة والمناخ.
ونرى في عمل الفنانتين أوتوبونغ نكانغا وإيميكا أوغبوه «الشيخوخة تدمر الحلم فقط لتستعيد إزميل الماضي الصلب» المعروض في بيت العبودي التراثي في ساحة المريجة، سلسلة من المداخلات والاقتراحات متعددة الوسائط في الأراضي المحيطة بالبيت، حيث أنشأت الفنانتان العديد من الفوهات البركانية الدائرية التي تحيط بها تلال رملية، وملآتاها بمياه البحر، وأضيف الملح إلى الماء، لضمان بقاء آثار المياه المالحة مع تبخرها بمرور الوقت، وعلى مقربة من الفوهات البركانية نسمع تسجيلا لأغنية «المطر» من التراث الإماراتي، وهكذا يحاول العمل بناء تصور للمتغيرات التي طرأت على بيت العبودي منذ أن سادت الحياة فيه سابقاً إلى أن أصبح أطلالاً اليوم، وبالتالي هي إشارة ضمنية إلى البدايات المليئة بالأمل، والفناء، وإمكانية ولادة جديدة.
فيما يقدم الفنان تشيو تشيجي، مجموعة من الأعمال المعروضة في رواق 3 في ساحة المريجة، والتي أنجزها عبر استخدام الطباعة بالألوان، إضافة إلى أعمال زخرفية معتمدة عل الرسم بالحبر الصيني، والتي تظهر في هيئة خرائط كبيرة تحمل عناوين: «خريطة الألعاب: اعتدت أن أكون فاشلا»، و«خريطة العواطف الإنسانية: كلاهما اليأس والأمل بركان خامد»، و«خريطة القدر: حركة السماء نابضة بالحياة أبد الدهر»، ويسعى تشيجي من خلالها للإضاءة على الفعل الإنساني، إنتاجيته وتجلياته المتداخلة والمترابطة.
أما عمل «القمح الأخرس» للفنانة فان ثاو نغوين المعروض في متحف الشارقة للخط، فيروي الحادثة التي قلما جرى تناولها والمتمثلة في المجاعة التي وقعت عام 1945 في دلتا النهر الأحمر في الهند الصينية الفرنسية إبان الاحتلال الياباني (1940-1945)، حيث قضى في هذه المنطقة من شمال فيتنام ما يزيد على مليوني شخص بسبب الجوع، ومرد ذلك جزئيا إلى المطالب اليابانية بزرع نبات «الجوت» عوضاً عن الأرز لدعم اقتصاد اليابان الحربي، ومن خلال سرد ما جرى على لسان مراهقيّن يروي كل منهما الأحداث من وجهة نظره الخاصة، ينسج العمل سرداً حول المجاعة، عبر استحضار التاريخ الشفاهي المأخوذ من متحف الثورة في هانوي الذي سجله المؤرخ فان تاو، بالتناغم مع عناصر روحانية من الحكايات الشعبية الفيتنامية.
ويستكشف شيزاد داوود في عمله «تجاوزات» المعروض في متحف الشارقة للفنون، الأفكار المتعلقة بالسيادة وقوانين ملكية الأراضي الخاصة والعامة، عبر تجربة واقع افتراضي تعتمد بشكل رئيسي على مبنى سفارة الولايات المتحدة الأميركية في كراتشي والذي أمضى داوود سنوات في إجراء أبحاث مكثفة حوله، وهو من تصميم المهندس المعماري ريتشارد نيوترا في خمسينيات القرن الماضي، والمبنى الآن في حالة ملتبسة، حيث لم يكتمل إلا بعد أن نقلت باكستان عاصمتها إلى إسلام آباد، ثم طُلبت تحسينات مستمرة لتلبي المعايير الأمنية الدبلوماسية الأميركية المتطورة إلى أن تم بيعه من قبل وزارة الخارجية الأميركية في عام 2014، وفي رحلة العالم الافتراضي إلى ومن أمام السفارة، يمر المشاهدون عبر بيئات موازية مختلفة مثل «فيروزون» في لاهور، وهي مكتبة شهيرة تعود إلى الحقبة الاستعمارية تأسست عام 1894، ومعبر سري يعود إلى سنوات ولاية رونالد ريغان، ومحل ألعاب الفيديو المليئة بالدعاية المعادية للسوفييت.
فيما يقوم محمد بورويسة في عمله «بليدة- جوينفيل» المعروض في روضة كلباء، بإنشاء مقاربة بين العمارة والتفكير العقلاني، حيث يستحضر الفنان مؤسستين (مصح للأمراض العقلية ومدرسة) ويحاول الربط بينهما من خلال مفهوم الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو «الهيتروتوبيا»، وهو مصطلح يعارض «اليوتوبيا» التقليدية، فإذا كانت اليوتوبيا محض تصور في ذهن المثاليين فإن الهيتروتوبيا تشير إلى ما هو موجود بالفعل، فالمكان عند فوكو إنما يتميز من خلال علاقتة بغيره من الأماكن وخاصة الأماكن المناقضة له، والتي قد تعبر بشكل أو آخر عن مراحل حياة الإنسان بدءاً من أماكن التعليم من مدارس وجامعات وغيرها مروراً بالفنادق أو السجون وحتى المستشفيات ودور الرعاية الصحية، وكلها أماكن وجغرافيات تتواكب مع المراحل التي تمر بها الحياة الإنسانية.
يُعدّ بينالي الشارقة من أهم التظاهرات الثقافية في العالم العربي؛ فقد لعب منذ انطلاقته عام 1993 دوراً مهماً في تفعيل المشهد الفني في دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة مشكّلاً منصة عرض لأهم ما تشهده الحركة الفنية حول العالم، كما استطاع أن يشكّل جسراً ثقافياً بين الفنانين والمؤسسات الفنية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي.
تستقطب مؤسسة الشارقة للفنون طيفاً واسعاً من الفنون المعاصرة والبرامج الثقافية، لتفعيل الحراك الفني في المجتمع المحلي في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، والمنطقة. وتسعى إلى تحفيز الطاقات الإبداعية، وإنتاج الفنون البصرية المغايرة والمأخوذة بهاجس البحث والتجريب والتفرد، وفتح أبواب الحوار مع كافة الهويّات الثقافية والحضارية، وبما يعكس ثراء البيئة المحلية وتعدديتها الثقافية. وتضم مؤسسة الشارقة للفنون مجموعة من المبادرات والبرامج الأساسية مثل «بينالي الشارقة» و«لقاء مارس»، وبرنامج «الفنان المقيم»، و«البرنامج التعليمي»، و«برنامج الإنتاج» والمعارض والبحوث والإصدارات، بالإضافة إلى مجموعة من المقتنيات المتنامية. كما تركّز البرامج العامة والتعليمية للمؤسسة على ترسيخ الدّور الأساسي الذي تلعبه الفنون في حياة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز التعليم العام والنهج التفاعلي للفن.