لم يكن إلغاء حبس المدين مجرّد تعديلٍ تشريعي عابر، بل كان نقطة تحوّل في مسار العدالة المدنية، وانتصارًا لفلسفة قانونية ترى الإنسان شريكًا في الحياة الاقتصادية لا سجينًا للفشل المالي.
ولذلك، فإن أي محاولة للتراجع عن هذه المنظومة الإصلاحية ليست خطوةً إجرائية بسيطة، بل ارتدادا تشريعيّا خطيرا يعيد الدولة والمجتمع إلى حقبةٍ تجاوزها العالم، وان تعديل النصوص او تفسيرها لصالح الدائنين باتخاذ الحبس وسيلة اجبار للوفاء بالديون يُنذر بإحياء نظامٍ متقادِم جعل من الإنسان رهينةً للعجز، ومن السلطات العامة أداةً جبرية لتحصيل الديون عبر السجون لا عبر سيادة القانون.
حبس المدين صورةً معاصرةً للعبودية، مغطاة بثيابٍ تشريعيةٍ ظاهرها الانضباط وباطنها الإكراه.
كان المدين يُساق إلى الحبس مهما كانت ظروفه -باستثناء حالات حصرها القانون- لتتحوّل الكرامة الإنسانية إلى بندٍ قابل للتعليق، ولتصبح الدولة ذراعًا طاردة للاستثمار، مولّدةً للخوف، وحاضنةً لتعطّل عجلة السوق بدل دعمها.
ولقد أثبتت التجربة أنّ الاقتصاد لا ينهض عبر الزنازين، وأن الأسواق لا تستقيم بسياساتٍ تُلقي بالأفراد خلف القضبان حين يتعثّرون، بدل أن تدفعهم نحو الإنتاج، والتسوية، وإعادة الاندماج في الدورة الاقتصادية.
نعم، الإصلاح لا يأتي بلا كلفة.
وقد نشهد في فترات الانتقال بعض الاضطراب أو المخاوف، لكن هذه أثمانٌ مؤقتة أمام بناء اقتصادٍ حديثٍ يقوم على الثقة والضمانات القانونية والمؤسسية، لا على التهديد والسلطة.
إن الدولة الحديثة لا يجوز أن تُختزل في دور "الجابي القسري”، بل ينبغي أن تُعاد إلى موقعها الطبيعي: حامية للتوازن وعدالة الإجراءات، وضامنة لعقدٍ اجتماعي يرتكز على الحقوق والواجبات لا على القمع والوصاية والتمسّك بالتشريعات التي أنهت حقبة حبس المدين واجبٌ وطني لا ترفًا تشريعيًا.
فهي تشريعات تحمي استقرار الاقتصاد وكرامة المواطن باعتباره عنصرًا منتجًا لا مادةً للحبس
إن العودة إلى حبس المدين عبر تعديل التشريع او إعادة تفسيرة ليس مجرد نقاش قانوني، بل اختبارٌ لمدى إيماننا بالدولة المدنية الحديثة فدولة القانون لا ترتدّ عن الإصلاح مهما اشتدت الضغوط أو علت الأصوات المطالِبة بالعودة إلى الأساليب القديمة وحماية هذا المسار الإصلاحي ليست مسؤولية المشرّع وحده، بل مسؤولية كل واعٍ بالشأن القانوني، وكل خبيرٍ يُدرك أن الاقتصاد المعاصر لا يُدار بعقلية السجن، وأن النهوض لا يتحقق بقبضةٍ غليظة بل بمنظومةٍ عادلة وبيئةٍ قانونية تحفّز العمل لا القيد.
لنطوي صفحة الحبس ولنبحث بعمق عن بدائل تحقق التوازن بين حق الدائن بتحصيل دينه وبين حماية كرامة المدين وحريته.