تصريح المناصير فرصة لضبط المسار

نبض البلد -
تصريح المناصير فرصة لضبط المسار

حمادة أبو نجمة 
16/11/ 2025

لم يكن الجدل الدائر حول ما نسب من تصريحات لرجل الأعمال الأردني زياد المناصير حدثا عابرا بقدر ما كشف عن مسألة أعمق تتعلق بطريقة تعاملنا مع قضايا الحوكمة والنزاهة والبيئة الاستثمارية، فبدلا من الإصغاء للرسالة التي تحملها هذه التصريحات سواء ثبتت دقتها أو لم تثبت، انشغل كثيرون في نفيها أو التشكيك بمن أطلقها، وكأن مجرد الحديث عن وجود ضغوط أو ممارسات غير قانونية يمثل مسا بسمعة البلد أو إساءة يجب التراجع عنها، وهذا التوجه برأيي يغفل أن طرح مثل هذه القضايا للنقاش العلني قد يمثل في كثير من الأحيان فرصة لبناء الثقة لا هدمها.

الاستغراب من صدور مثل هذه التصريحات أو مطالبة صاحبها بنفيها أو الاعتذار عنها يعكس نظرة قاصرة لطبيعة المشكلات التي تواجهها الاقتصادات الحديثة، فلا دولة في العالم بما في ذلك أكثر الدول تقدما وصرامة في الشفافية والمساءلة تخلو من محاولات النفوذ والمحاباة واستغلال المواقع لتحقيق منافع خاصة، فهذا واقع نابع من طبيعة البشر قبل أن يكون واقعا إداريا، لكن الفرق بين الدول القوية والدول الضعيفة لا يكمن في غياب المخالفات بل في وجود منظومة رادعة وفعالة تمنع تكريسها وتتعامل معها حين تقع بسرعة وشفافية وحزم.

فتقييم الدول في المؤشرات العالمية لا يبنى على غياب مثل هذه الظواهر أو إنكار وجودها بل بمدى القدرة على كشفها ومعالجتها وضمان عدم الإفلات من العقاب، فالمؤشرات الدولية مثل مؤشر مدركات الفساد CPI   الصادر عن منظمة الشفافية الدولية أو مؤشر سيادة القانون الصادر عن مشروع العدالة العالمي  WJP تقاس بناء على وجود نظم رقابية فاعلة واستقلال القضاء وآليات المساءلة وفعالية المؤسسات ووضوح الإجراءات، وليس بناء على ادعاء خلو المجتمعات من المحسوبية أو الضغوط أو الابتزاز، بل إن الدول التي ترتفع مؤشراتها هذه هي ذاتها التي تظهر أكبر قدر من الشفافية في التعامل مع مثل هذه الملفات.

ولذلك فإن تصريحات المناصير إذا صحت لا ينبغي النظر إليها كتهديد لصورة الأردن الاستثمارية، لا بل على العكس من ذلك يمكن التعامل معها كفرصة لإعادة تقويم بعض الممارسات وتعزيز الثقة بجدية النظام الرقابي والقانوني في البلاد، فالضرر الحقيقي على صورة البلد لا يأتي من الاعتراف بالمشكلة بل من التظاهر بعدم وجودها أو محاولة إسكات من يثيرها، وعندما يخرج مستثمر بحجم المناصير ليتحدث عن ضغوط أو محاولات ابتزاز فإن تجاهل هذا الكلام أو التعامل معه كـموضوع لا يستحق الضوضاء يعكس ذهنية خطيرة تفضل دفن الرؤوس في الرمال بدلا من مواجهة التحديات.

وبالمقابل فإن تحويل النقاش إلى جدل حول الطريقة التي خرجت بها التصريحات وهل قيلت في جلسة مغلقة أم تم تسريبها هو انحراف عن جوهر القضية، فما يهم المستثمرين والمواطنين والشركاء الدوليين ليس الشكل الذي خرجت به الشكوى بل الطريقة التي تتعامل بها الدولة مع مضمونها، والقول بأن مثل هذه القضايا يجب أن تعالج بعيدا عن الإعلام بدعوى "عدم التشهير” أو "حماية سمعة البلد” هو منطق يبرر استمرار المشكلة بدل معالجتها ويكرس قناعة بأن الشفافية لا تزال محصورة في إطار الشعارات.

المطلوب اليوم هو أن تتحول مثل هذه الحوادث إلى مساحة لتعزيز الثقة، وأن تظهر الدولة أن لديها ما يكفي من القوة المؤسسية لفتح تحقيق مهني وشفاف والإعلان للرأي العام عن الخطوات التي تم اتخاذها، فالمستثمر لا يبحث عن بلد بلا أخطاء وهذا غير موجود بل يبحث عن بلد لديه نظام قادر على تصويب الأخطاء، وقضاء مستقل ومؤسسات رقابية قوية وتشريعات رادعة وآليات تنفيذ محترمة ومسؤولين يعاملون بمسطرة واحدة دون تمييز، وهذا هو جوهر البيئة الاستثمارية التي تقاس عالميا وهو ما ينتظره الأردني قبل المستثمر الأجنبي.

التعامل مع هذا الملف بحزم وشفافية وإعلان نتائجه للرأي العام سوف يعزز الثقة الداخلية وسيبعث برسالة قوية للمستثمرين في الداخل والخارج بأن الأردن دولة مؤسسات تحترم القانون وتطبق مبادئ العدالة بلا تردد، وهذه هي الصورة التي يستحقها الأردن وهي الصورة التي تعزز بيئته الاستثمارية وليس الإنكار أو التهميش أو التبرير.