تورم الاحتقان الأمريكي، هل نشهد جولة جديدة بين أمريكا واليسار العالمي؟

نبض البلد -

تتكاثف الأنباء الحادة حول الولايات المتحدة الأمريكية،وشيئا فشيئا تأخذ هذه الأخبار طابعا حادا؛ فأمريكا برئاسة رجلها الأكثر (شقارا) تعيد تفعيل أدواتها الأكثر خشونة، ولعل الحدث الأبرز كان تغيير اسم وزارة دفاعها إلى "وزارة الحرب" وهو الانعكاس الاصطلاحي لتغير فلسفة البلاد نحو الحروب المباشرة، الأمر الذي توقف منذ وقف العمليات العسكرية المتمثلة باحتلال العراق (2003 – 2011) حيث اقتصرت الأدوار العسكرية بعدها على تقديم المساعدات أو المشاركة في جولات ضمن تحالفات دولية.
والسؤال الأكثر إلحاحا: ما السر وراء النشاط الأمريكي هذا؟
لعل الجواب الأدق هو الشعور الأمريكي بالخطر الوجودي؛ فالبلد محتكر السيطرة العالمية منذ أفول الاتحاد السوفييتي تماما (1991) لم تستطع قوة عالمية واحدة تقديم نفسها كقطب موازٍ لأمريكا عسكريا واقتصاديا، ولكن السنوات الأخيرة كشفت شيئا فشيئا عن صعود النجم الصيني؛ حيث شهدت الألفية الجديدة تناميا سريعا جدا للاقتصاد الصيني ليصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 19 تريليون دولار في 2023 مقابل 27 تريليون دولار لأمريكا مع إهمال القوة الشرائية الفعلية التي تميل لصالح الصين، وعلى العموم فالمهم هنا هو الإشارة إلى أن الناتج الإجمالي الصيني لم يكن يتجاوز 10% من الأمريكي عام 2000!
هذا الصعود الاقتصادي المرعب يعتبر ورقة صينية ضمن عدة أوراق أخرى؛ منها تركيز البلاد على مسارات نشر وعولمة التنمية بدلا من الحرب، إضافة إلى اللغة الدبلوماسية الصينية العالية والبعيدة عن فرد العضلات وتحلي البلد الشرقي بتاريخ طويل من التعاملات الأخلاقية، علاوة على امتلاك الصين لإنتاج صناعي حقيقي أكثر واقعية وديمومة من اقتصاد الخدمات المهدد دوما، ولعل التلاعبات الضريبة والحملات المباشرة التي شنتها أمريكا وحلفائها على شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي الصينية خير دليل على فاعلية هذه الورقة المؤثرة جوهريا، والختام القاتل كان بالعرض العسكري الصيني الذي أظهرت فيه الصين شيئا من أنيابها خصوصا مع تصاعد الاحتقان مع الجارة تايوان المتموضعة في المعسكر الغربي.
بناء على ما سلف أضع الإطار النظري المسوغ لهوس ترامب العدائي نحو الصين المؤدلجة يساريا، واستشعاره لتنامي خطر اليسار العالمي وخصوصا مع ما أحدثته غزة من تفسيخ تام للبنية القيمية الغربية المتعلقة بحقوق الإنسان ونشر الحرية والديمقراطية، فلو قفزنا عن عشرات المظاهرات في العواصم العالمية المنادية بحقوق الشعوب المقهورة ورفض الدعم الغربي المطلق للكيان الصهيوني، فلا نستطيع تجاهل نتائج الانتخابات في عدة بلدان أوروبية وما شهدته من تصاعد يساري، بل إن هذا التنامي وصل إلى قلب الغرب بصعود الخطاب اليساري التقدمي في أمريكا نفسها، وخصوصا مع الحملات على المهاجرين وغيرها من القرارات العنصرية، هذا كله وأكثر من القراءات على الأرض تشكل فزاعة مرعبة.
اليوم، نشهد شيئا فشيئا تصاعدا حادا من أمريكا على مختلف المستويات، حيث كان الوجه الناعم هو التصريحات العنيفة والتخوينية ضد التقدمية داخليا بالذات ضد ممداني وحملته، بل وتضخم الخطاب "المؤمن" لأمريكا، وحظر منظمات يساريةمثل (أنتيفا) وقمع الاحتجاجات الطلابية وفصل طلاب ومدرسين شاركوا فيها، أما خارجيا فرأينا مؤخرا تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية لأربع روابط يسارية أوروبية واضعة إياها على قوائم الإرهاب وحظر التمويل وهي الخطوة السابقة -غالبا- لإجراءات تلاحق قوى سياسية يسارية داخليا، وأخيرا -الحدث الأبرز- نجد الحملة العسكرية (الرمح الجنوبي) ضد ما أسمته أمريكا "عصابات التهريب الفنزويلية" وهي الحملة المتهمة بكونها حربا لتقويض النظام السياسي اليساري الفنزويلي.
وبقليل من التأويل نستطيع اعتبار رفع أمريكا جماعات إسلامية في منطقة الشرق الأوسط من قوائم الإرهاب بل ودعمها المباشر لها كدليل على السعي المستمر للتشبث بكل فرص بناء السدود أمام الموج اليساري القادم لا محالة، فالجولة القادمة تتصاعد بشكل أممي في مختلف دول العالم مدعومة بنجاح النموذج الصيني وتهاوي النظرية الغربية حول النموذج "الأوحد" من الحرية والرفاه والديمقراطية.
في الختام يكون السؤال مُلحًا: هل ستقرر الصين الانتقال الصريح لتشكيل قطب يساري موحد؟ هل ستصعد أمريكا من تحركاتها العسكرية أكثر؟ وكيف ستنتهي هذه المناورة الواسعة؟

يزن عيد الحراحشة.