نبض البلد - عرض لكتاب الكاميرا تشرق من القدس
الناقد / محمد رمضان الجبور
يأتي كتاب "الكاميرا تشرق من القدس" للناقد والكاتب د. سليم صبحي النجار بوصفه شهادة فنية ووثيقة إنسانية تنبض بالضوء والمقاومة، فهو لا يكتفي بتأريخ تجربة المصوّر الشهيد هاني جوهرية، بل يقدّم من خلاله سردًا بصريًا لتاريخ الوعي الفلسطيني كما انعكس في عدسة الكاميرا التي كانت ـ بحق ـ بندقيةَ الصورة وذاكرةَ الثورة.
يقف غلاف كتاب "الكاميرا تشرق من القدس" للكاتب سليم النجار بوصفه أول نص بصري يهيّئ المتلقي لعبور الدهشة إلى فضاء النص. فالعنوان المكتوب بحروف ذهبية دافئة فوق خلفية زرقاء شفيفة يتوسطها وجه الشهيد هاني جوهرية، يُشعّ كأنّه شمسٌ تُشرق من ذاكرة المدينة المقدّسة. إنّ التقاء الكلمة بالصورة هنا ليس مصادفة تصميمية، بل بيان رمزيّ عن التحام الفعل الجمالي بالفعل المقاوم؛ فالكاميرا، في هذا الغلاف، لا تلتقط المشهد بل تخلقه من جديد.
يتكئ التصميم على حضور قبة الصخرة في الخلفية، رمزًا للقدس بوصفها مهبط الضوء ومصدر الإشعاع الروحي، وكأنّها تعانق وجه المصوّر الشهيد، في وحدة بين الإنسان والمكان، بين العدسة والقداسة. أما اللون الأزرق، الممتدّ كسماءٍ صافية، فيوحي بالصفاء والنبل، بينما يرمز الذهب إلى الخلود والانبعاث، ليصبح الغلاف ذاته تجسيدًا بصريًا لعنوان الكتاب: الكاميرا تشرق... ومن القدس تحديدًا، من مركز الضوء العربي الأول.
الجانب الخلفي للغلاف لا يقل عمقًا، إذ يحمل مقطعًا تأمليًا من مقدمة محمد البشتاوي، يتحدث عن القدس بوصفها مهد الصورة، ويستدعي أسماءً فلسطينية رائدة في التصوير. بذلك يتحول الغلاف إلى بوابة معرفية وجمالية تُمهّد للقراءة النقدية، وتؤكد أن هذا العمل لا يتحدث عن شخص بقدر ما يكتب سيرة الضوء الفلسطيني في مواجهة عتمة الاحتلال.
وهكذا، فإن الغلاف لا يؤدي دوره التقليدي في التعريف بالكتاب فحسب، بل ينطق بلغة الرمز والهوية، ويشكّل العتبة التي منها تبدأ القراءة، ومن خلالها يُدرك المتلقي أنّ هذا النص ليس سيرة فنية فحسب، بل وثيقة عشق للقدس ولجماليات الصورة المقاومة.
يستمد الكتاب فرادته من التقاء الفني بالوطني؛ إذ يقرأ النجار تجربة جوهرية لا كمسيرة مهنية في التصوير السينمائي فحسب، بل كرحلة وعي وموقف وجودي من الحياة والحرية والجمال. ومن خلال لغةٍ تتأرجح بين التحليل النقدي والتأمل الشعري، يضيء المؤلف سيرة الشهيد الذي جعل من الكاميرا رفيقًا في المعركة، ومن الصورة وثيقةً حية تسجل نبض الأرض وملامح الإنسان الفلسطيني في لحظات الألم والفداء.
في فصول الكتاب، تتشابك السيرة الشخصية مع التاريخ الجمعي، ويتحوّل النصّ إلى مرآة لزمنٍ كانت فيه الصورة مقاومةً صريحة للزيف الصهيوني ومحاولةً لاسترداد الحق من فم الأسطورة. فالكتاب لا يوثق فقط حياة مصورٍ استثنائي، بل يؤسس لرؤية نقدية جمالية حول السينما الفلسطينية بوصفها خطابًا تحرريًا ينهض من بين الركام ليعيد كتابة التاريخ بلغة الضوء والعدسة.
تكمن أهمية هذا العمل في أنه يرفد المكتبة العربية بسجلّ نادر من الذاكرة البصرية الفلسطينية، ويوسّع آفاق النقد السينمائي العربي نحو منطقة لم تحظَ بما تستحق من دراسة وتحليل: منطقة الكاميرا بوصفها فاعلًا ثقافيًا وتاريخيًا. فبين دفّتي الكتاب، يقدّم النجار قراءة معمقة للصورة بوصفها أداة مقاومة، ويستحضر شهاداتٍ من رفاق هاني جوهرية وأصدقائه، فتغدو الصفحات مساحةً لتقاطع الذاكرة الفردية مع الذاكرة الوطنية.
وما يميز الكتاب أنّه لا يكتفي بوصف البطولة، بل ينفذ إلى فلسفة الفعل الفني؛ إذ يرى أن الصورة التي التقطها الشهيد لا تكتفي بأن «تنقل الحدث»، بل «تخلقه»، وتمنحه معنى يتجاوز اللحظة. إنها صورةٌ لا تهدأ — كما يسميها المؤلف — لأنها تواصل اشتعالها في الوجدان العربي، شاهدة على أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا، وأن الجمال في لحظات الوجع هو أعمق أشكال المقاومة.
إن "الكاميرا تشرق من القدس" كتاب يُضيء ظلمة النسيان، ويعيد الاعتبار لجيلٍ من المبدعين الذين صنعوا من الفن فعلًا وطنيًا. وهو، قبل ذلك، إضافة نوعية للمكتبة العربية، إذ يدمج بين النقد والسيرة، وبين الوثيقة والجمال، ليغدو نصًا مركزيًا لكل دارسٍ لتاريخ السينما الفلسطينية أو المهتم بجماليات الصورة في سياقها التحرري والإنساني.
يمكن القول إن "الكاميرا تشرق من القدس" ليس مجرد كتابٍ يُروى فيه تاريخ رجلٍ حمل عدسةً في مهبّ الريح، بل هو نشيد ضوءٍ يتردّد بين حجارة القدس ودماء الشهداء. فهنا تتحول الكاميرا إلى ضميرٍ إنسانيٍّ يقظٍ، يلتقط لحظة الفقد كما يلتقط لحظة النهوض، ويحوّل المشهد العابر إلى أيقونةٍ سرمديةٍ لا تموت.
يكتب سليم النجار هذا النص كما لو أنه يُنير مسار الذاكرة الفلسطينية بمصباحٍ من الحنين والوعي، مؤكّدًا أن الصورة — حين تنبع من قلب القدس — لا تُشرق فحسب، بل تبعث في الوجدان العربي يقظة الجمال المقاوم.
إنه كتاب يليق أن يُحمل إلى الأجيال القادمة بوصفه وثيقة بصرية وهوية فكرية، تشهد بأن الكلمة والعدسة معًا قادرتان على أن تُواجها رصاص النسيان، وتُبقيان للقدس شمسها التي لا تغيب.