الدكتور سلطان المعاني
حين بدأ نظام BTEC "مجلس التعليم للأعمال والتكنولوجيا" في المدارس الأردنية، لم يكن الهدف تجميل المناهج أو تحديث الأدوات، وإنما إيقاظ حسٍّ جديد في معنى التعلم. كانت الإشارة واضحة إلى أن التعليم بناءٌ لمهارةٍ تتغذّى من التجربة وتزدهر بالممارسة. ومن هذه البذرة المدرسية انبثق وعيٌ يتّسع اليوم في الجامعات، حيث يلتقي الفكر بالعمل، وتتقاطع المعرفة مع الكفاءة، ويبدأ جيلٌ جديد في رسم طريقه نحو المستقبل المهني والعلمي.
يتقدّم التعليم في الأردن بخطواتٍ محسوبة نحو مرحلةٍ تذوب فيها الحدود بين النظرية والتطبيق. لا تعود الشهادة مجرّد وثيقة تبرهن على الدراسة، وإنما ثمرة مسارٍ حيّ يختبر قدرات المتعلم، ويمنحه أدواتٍ تساعده على الفعل والإبداع. ومع انتقال نظام (بتيك) إلى الفضاء الجامعي، تتعمّق هذه الرؤية الوطنية التي ترى في الطالب مشروع إنسانٍ منتجٍ للمعرفة، يشارك في صنع التنمية لا في انتظارها.
يولد هذا التحول من إيمانٍ بأن المستقبل لن يُبنى إلا بعقولٍ تتقن، وأيدٍ تُحسن، وأن الجامعة هي الامتداد الطبيعي للتجربة المدرسية الجديدة. ما يتعلّمه الطالب في الصف العاشر والحادي عشر والثاني عشر لا يتوقف عند أبواب الثانوية، فهو يتهيّأ للانخراط في منظومةٍ أكاديميةٍ تستوعب هذا الوعي وتمنحه أفقًا أرحب. وبهذا المعنى، يغدو التعليم مسارًا متصلًا من الطفولة حتى الدراسات العليا، حيث تتكامل المراحل في نسيجٍ وطنيٍّ واحد.
إنّ رؤية الأردن في هذا الاتجاه تحمل بعدًا يتجاوز التربوي إلى الإنساني. فهي تعيد الاعتبار إلى القيمة الأخلاقية للعمل، وتفتح أمام الشباب طريقًا نحو الكرامة المهنية والمعرفة المتخصصة. يصبح التعليم المهاري مساحةً لاكتشاف الذات، والجامعة مرآةً تعكس صورة الوطن كما يريد أن يكون: مجتمعًا قادرًا على تحويل طاقاته إلى فرصٍ واقعية، ومواهبه إلى إنجازٍ ملموس.
يحتاج هذا التحول إلى وعيٍ جماعي يرى في التعليم استثمارًا طويل الأمد، لا مشروعًا محدود الأثر. كل خطوة في بيتك هي لبنة في بناءٍ حضاريٍّ يستهدف الإنسان الأردني أولًا، باعتباره الثروة الحقيقية للوطن. وحين تتّسع دائرة هذا الفهم، تتحوّل الجامعات إلى مناراتٍ تشارك في صناعة المعرفة وتجديدها، وتستقطب الطاقات الشابة إلى مساحاتٍ من البحث والتجريب والابتكار.
التحول الجاري ليس تغيّرًا في الشكل، وإنما نضجٌ في الفكرة. ومن خلاله يقترب التعليم الأردني من صورته التي طال انتظارها: تعليمٌ يربّي على السؤال، ويصقل المهارة، ويحرّك في المتعلم شغف الاكتشاف. وهكذا يصبح BTECعنوانًا لوعيٍ جديد في الجامعة كما كان في المدرسة، وممرًّا نحو جيلٍ يعرف كيف يربط بين العلم والعمل، ويصوغ مستقبله بإرادته، دون ادعاء ولا خوف.
في جوهر هذا التحوّل يكمن سؤال المعنى؛ كيف يمكن للتعليم أن يصبح فعلًا للوجود لا مجرّد طريقٍ إلى الوظيفة. حين يتعلّم الإنسان ليمارس فكرَه بكرامةٍ ومهارته بإتقان، تتغيّر ملامح الوطن من الداخل. فكل جيلٍ يدخل الفضاء الجامعي بعد تجربة BTEC يحمل معه وعدًا صغيرًا بأن المعرفة ما تزال قادرة على أن تُنبت الأمل، وأن ما يُزرع في الصفوف سيُثمر في المخابر، وفي الورش، وفي الحقول، وفي العقول التي تعيد صياغة الحاضر بثقةٍ وهدوء.