إجهاد الإعلام الرسمي!

نبض البلد -


حاتم النعيمات


لكل دولة في العالم منظومتها الإعلامية التي تعبّر عن توجهاتها، وتشكل إحدى أدوات سيادتها على الفضاء العام؛ فالإعلام الرسمي هو لسان الدولة في توضيح الحقائق، ووسيلتها لبناء الوعي الجمعي وتحصين المجتمع من الإشاعة وتلاعب العاطفة، خصوصًا في زمنٍ صعدت فيه وسائل إعلام بديلة بلا ضوابط، تنمو بسرعة داخل منصات التواصل الاجتماعي وتكتسب تأثيرًا يفوق حجمها.

المشهد اللافت اليوم هو دخول الإعلام الرسمي وشبه الرسمي في سباق غير متكافئ مع "إعلام المؤثرين"، وهذا متوقع في سياق مرحلة انتقالية بين شكلين من الإعلام، والطبيعي أكثر أن محاولات الدول تكون غالبًا بلا جدوى في مجاراة هذا الإعلام الجديد، أو حتى تقليده عبر محتوى يُشبهه شكلًا لا مضمونًا، بينما يظل الإعلام البديل أسرع حركة وأقل التزامًا بالمهنية أو التوثيق، على خلاف الإعلام المؤسسي الذي لا يملك ترف الانفلات من القواعد والضوابط.

أود التأكيد أن ما يحدث ليس شرطًا أن يكون أساسه ضعف في إعلام الدول الرسمي بقدر ما هو اختلاف في البنية والوظيفة؛ فالإعلام الرسمي مرتبط بالمعلومة الدقيقة والمصداقية وبسياسات الحكومات وبالعلاقات الدولية وبالقوانين والتعليمات، بينما الإعلام الجديد يقوم على التأثير العاطفي والانتشار اللحظي، ومع ذلك، نشهد اليوم محاولات رسمية للانتقال إلى بيئة التواصل الاجتماعي بحثًا عن جمهور هجر الشاشات إلى الهواتف، وبتصوري فإن ذلك لن ينجح بسهولة.

لكن الخطر يكمن حين يتحول هذا الإعلام البديل إلى متحدثٍ باسم الدولة أو واجهةٍ لسياساتها، أو يتمكن من الوصول إلى مؤسساتها، فيغيب المعيار، ويُصبح قبول المعلومة مبنيًا على علاقة المتلقي بالمؤثر لا على الثقة بالمصدر، وهنا تنشأ أزمة تمثيل حقيقية، حين يُمنح منبر الدولة لمن لا يحمل وعيها ولا يدرك أبعاد هويتها الوطنية.

المطلوب ليس مصادرة هذا الفضاء ولا فرض البيروقراطية عليه، بل تنظيمه بذكاء، على الدول أن تطوّر منظومات قادرة على مجاراة الإعلام الجديد، تضع حدودًا قانونية واضحة، وتمنع أن يتحول الوعي العام إلى سلعة في سوق الربح والمشاهدات.

الإعلام ليس مجرد وسيلة نقل للمعلومة، بل هو انعكاس لهوية الدولة وثقافتها، وعندما يُترك المجال لمن يجهل هذه الهوية ليعبّر عنها، تتشوه صورتها وتضعف ثقة المواطن بها.

وفي الحالة الأردنية، نرى نماذج من المؤثرين الذين استغلوا المنصات لمهاجمة مواقف الدولة بدافع "التريند”، بل وتداولوا إشاعات تمس صورتها، ومع ذلك لا يزال البعض يراهم أدوات لنقل الرسالة الوطنية أو حتى تمثيل الأردن في الخارج، وهو أمر يثير التساؤل حول غياب المعايير والمسؤولية.

المعركة اليوم ليست ضد المؤثرين بل ضد الفوضى التي تنتجها بيئة بلا تنظيم؛ فهناك سباق محموم على تشكيل الوعي العام بعيدًا عن المهنية أو الوطنية، ولهذا يصبح من الضروري دعم جهود نقابة الصحفيين الأردنيين وكل المؤسسات الساعية إلى ضبط الفضاء الإعلامي وحمايته من التشتت والتوظيف الشخصي.

الزمن لا ينتظر، والمشهد يتغير بسرعة، لكن الدولة والمجتمع معًا قادران على إعادة التوازن بين إعلام الهوية وإعلام "التريند”، شرط أن تكون الأولوية للعقل لا للضجيج، وللمعلومة لا للمؤثر.