نبض البلد -
حاتم النعيمات
يرجح الكثير من المحللين بأن صفحة المواجهة بين إسرائيل وإيران لم تطوى بعد، فإسرائيل ما زالت ترى في نفسها المنتصر استخبارياً وجوياً في الجولة الأخيرة، ولن تتنازل بسهولة عن هذا التفوق الذي تعتبره إنجازًا استراتيجيًا؛ فالحرب لم تُختتم باتفاق متوازن أو تفاهم حقيقي، بل توقفت بقرار أمريكي مباشر فرض على تل أبيب وقف القصف دون قناعة راسخة بجدواه، ما يعني أن الهدوء الراهن هشٌّ ومؤقت، وليس نتيجة تفاهم يضمن عدم تجدد الصراع.
في واشنطن ما يزال الجدل قائمًا حول جدوى الضربة الأمريكية للمواقع النووية الإيرانية التي أنهت بها الإدارة الأمريكية الحرب. تقارير واشنطن بوست وCNN كشفت أن الضربة لم تحقق الأهداف التي أعلن عنها الرئيس ترامب، وأن الأضرار التي لحقت بالمفاعلات الإيرانية ليست جسيمة كما صوّرتها الرواية الرسمية، ووفقًا لمصادر استخبارية، فإن إيران تحتاج لأشهر فقط لاستعادة قدراتها النووية. هذا الطرح عززه تصريح مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي حين أكد أن "إيران قادرة على استئناف التخصيب خلال أشهر قليلة”، ما وضع البيت الأبيض تحت ضغط إعلامي وسياسي كبير.
الصورة في واشنطن تُظهر انقسامًا واضحًا داخل مراكز القرار. فهناك تيار ديمقراطي يسعى لإنهاء النظام الإيراني وتفكيك الدولة من الداخل، مدعومًا من مؤسسات إعلامية كـ CNN وواشنطن بوست ومن جماعات الضغط الحقوقية. في المقابل، يقف التيار الجمهوري وعلى رأسه ترامب مدافعًا عن فكرة الإبقاء على توازن القوى في المنطقة، تجنبًا لانفجار شامل لا يمكن ضبط نتائجه. حسم هذا الصراع داخل العاصمة الأمريكية سيحدد إلى حدٍّ بعيد مصير العلاقة المقبلة مع طهران، وربما يفتح الباب أمام جولة جديدة من الهجمات الإسرائيلية، وربما الأمريكية أيضًا.
أما داخل إيران، فالمشهد لا يقلّ تعقيدًا، لأن الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين بلغ ذروته، فالرئيس مسعود بزكشيان ووزير الخارجية عراقجي يدفعان باتجاه التهدئة واستئناف التفاوض، حتى لو اقتضى الأمر نقل اليورانيوم المخصب إلى دولة ثالثة تضمن استخدامه للأغراض السلمية. لكن في الجهة الأخرى، يقف المحافظون المتشددون وعلى رأسهم المرشد الأعلى وقيادة الحرس الثوري، متمسكين بخطاب تصعيدي لا يعترف بالمساومة. ومع غياب الحسم بين المعسكرين، تبقى السياسة الإيرانية مفتوحة على كل الاحتمالات، وإن كان تأثيرها أقل من تأثير الموقف الأمريكي.
وفي تل أبيب، لم تُغلق معركة غزة ملفاتها بعد، فقرار وقف الحرب تحول إلى عبء داخلي على حكومة نتنياهو، بعدما هدد الوزيران المتطرفان بن غفير وسموترتس بالاستقالة، ما قد يؤدي إلى إسقاط الحكومة التي يواجه رئيسها ملفات فساد ورشوة أمام القضاء. الأزمة الإسرائيلية الداخلية تمتد بطبيعتها إلى واشنطن، حيث يتقاطع الموقف الإسرائيلي مع الحسابات الانتخابية الأمريكية، وهو ما يفسر استمرار الغموض في الموقفين.
العدوان على غزة يبدو أنه يقترب من نهايته وفق ما يُعرف بـ”خطة ترامب للسلام”، لكن ما بعد غزة ليس بالضرورة سلامًا، إذ سيحاول نتنياهو كسب الوقت عبر إبقاء التوتر مفتوحًا في جبهة إيران، لتفادي انهيار ائتلافه السياسي قبل الانتخابات.
نحن أمام ثلاثة مسارات متشابكة في واشنطن وطهران وتل أبيب، ستحسم مستقبل الملف النووي الإيراني، وتحدد شكل التوازنات في المشرق العربي بأكمله. لذلك فإن التحرك العربي الاستباقي ضرورة، كما حدث في نيويورك حين بادر بعض القادة العرب إلى التواصل المباشر مع الرئيس ترامب في لحظات حاسمة.
وإذا ما اندلعت جولة جديدة من الصراع بين إسرائيل وإيران، فإنها لن تكون محدودة أو استكشافية كما كانت الجولة الأولى، بل ستفتح الباب أمام فوضى إقليمية يصعب احتواؤها. الأخطر من القصف والصواريخ هو ما قد يترتب عليه من انهيارات داخلية في إيران، تشبه ما حدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، حين تحولت الفوضى إلى بيئة خصبة للتطرف والانقسام الطائفي.
المنطقة اليوم تقف على حافة الاحتمالين: هدنة قلقة، أو فوضى جديدة، والفارق بينهما لن تحدده البنادق، بل موازين السياسة في واشنطن قبل أي مكان آخر.