نبض البلد -
حاتم النعيمات
تتكرر المشادات تحت قبة مجلس النواب الأردني، ويُعاد تدويرها إعلاميًا بصورة مبالغ فيها أحيانًا، وكأنها ظاهرة فريدة أو دليل على فشل التجربة البرلمانية. والحقيقة أن هذه المشاهد موجودة في معظم برلمانات العالم (إن لم تكن جميعا)، من الديمقراطيات العريقة إلى الحديثة، ولم تكن يومًا معيارًا للحكم على نجاح البرلمان أو إخفاقه، والمشكلة لا تكمن في مشكلة أو مشادة تحت القبة، بل في التضخيم والتهويل، بما يدفع الرأي العام إلى مواقف حادة وغير متزنة تجاه ما اختاره بنفسه.
هنا لا بد من التمييز بوضوح بين البرلمان كمؤسسة وطنية أردنية راسخة، وبين أداء بعض أعضائه، فنقد سلوك النواب حق مشروع، بل ضرورة، لكن غير الطبيعي هو القفز من نقد الأفراد إلى السعي إلى ضرب هيبة المؤسسة نفسها، ولأكون صريحًا أكثر، فهذا المسار لا يبدو بريئًا دائمًا، بل يحمل في كثير من الأحيان قدرًا من القصدية والبرمجة، ويخدم أجندات تتجاوز مجرد الإصلاح أو المحاسبة.
مؤسسات الدولة الأردنية، والبرلمان في مقدمتها، تتعرض منذ عقود لحملات منظمة تستهدف إضعافها وتشويه صورتها لأن بعض التيارات السياسية والاقتصادية ترى في هذه المؤسسات عائقًا أمام مشاريع كبرى لا تنسجم مع فكرة الدولة الوطنية مثل مشاريع التوطين والتهجير، أو مشاريع تحويل البلاد إلى ساحة تعبئة دائمة، أو حتى اختزالها في كيان اقتصادي منزوع القيم الوطنية. هناك من يعلم جيدًا أن إضعاف الدولة يبدأ دائمًا من إضعاف مؤسساتها، والبرلمان هدف مركزي في هذا السياق.
قد لا ألوم البعض على نقد أداء المؤسسة (البرلمان) فهناك أعضاء فيها يستغلونها كمنبر لشحن الناس ضد الدولة (الدولة وليس الحكومة)، إذ رأينا في جلسات حساسة، مثل مناقشات الموازنة العامة، خطابات تذهب باتجاه بث روايات مثل الحديث عن "قواعد أجنبية” أو جسر بري مزعوم لإسرائيل، وذلك كله دون سند قانوني أو دليل، والقصد طبعًا رفع مستوى التجييش واستثمار الغضب العام. هذا الاستخدام لمنبر تشريعي رقابي في بث الشكوك وتغذية فقدان الثقة لا يخدم المعارضة ولا الإصلاح، بل يضرب فكرة الدولة من داخلها.
من زواية أخرى، لا يمكن لمنصف أن يتجاهل الدور الحقيقي الذي يلعبه البرلمان بوصفه نافذة الأطراف والمناطق الأقل حظًا على مركز القرار، عبر العلاقة التفاعلية بين الحكومة والبرلمان والناخب، واستطاع الكثير من النواب خلال سنوات طويلة تحسين الواقع الخدمي والاقتصادي لكثير من المناطق. بالتالي، فإن السعي لإغلاق هذه النافذة أو تشويهها في الذهنية العامة سيقود حتمًا إلى احتقان شعبي نحن في غنى عنه.
في هذا السياق، يُحسب لمؤسسة "راصد” أنها أسست خلال السنوات الأخيرة تقليدًا مهمًا قائمًا على جمع البيانات وتحليلها وتقديمها للرأي العام بلغة الأرقام لا الانطباعات. هذا النهج يحمي النواب من التعميم الجائر، ويحمي البرلمان من حملات التشويه، لأن الأرقام تحسم الجدل وتمنع استخدام سوء الفهم وعدم الدراية.
نعم، نريد أداءً نيابيًا أفضل، لكن علينا أن نكون واقعيين، فأعضاء البرلمان لا يتم اختيارهم في الغالب بناءًا على معايير تكنوقراطية أو علمية دقيقة، وهذا أمر طبيعي ومن مصاحبات الديموقراطية، لذلك، لا يشترط في النائب أن يكون خبيرًا متخصصًا، بل أن ينقل صوت ناخبيه ويدافع عن مصالحهم كما يرونها. لذلك، فإن الهجوم على البرلمان بذريعة ضعف الأداء هو في جوهره استهداف للنتيجة لا للسبب، والأصل أن يراجع الناس طرق اختيارهم إن أرادوا إصلاح أداء المجلس بصدق.
إضعاف البرلمان في تصور الأجيال المتعاقبة مقامرة خطرة بالعقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة الأردنية الحديثة، فهذا البرلمان، بكل ما له وما عليه، هو أحد تجليات قيام الدولة الأردنية كنتيجة لحراك تاريخي اجتماعي من قبل مئات السنين، وحمايته تتم باختيار المؤهلين له لا بتقزيمه وتشويهه.