جدلية المقاومة...

نبض البلد -

التاريخ يكتبه المنتصرون، والأرض الجيدة يخسرها الضعفاء؛ جدلية القوة والضعف. عندما يغيب قانون السماء عن الأرض هذا ما يحدث، وهذا ما حدث في الهلال الخصيب (بابل، أكّاد، آشور)، وقبل ذلك في أماكن الصيد الجيدة، وبعد ذلك في الإمبراطوريات التي حدثت وكانت تنهض وتتوسع ثم تموت. ومن هنا ظهرت دورة التاريخ وظهرت جدلية التاريخ، وظهر ابن خلدون وهيجل، ولكن القرآن لم يغفل من أول يوم نزل فيه هذا الدور، وأسباب القيام وأسباب الانهيار، وركز على دراسة الأمم السابقة دراسة تفصيلية، وهذا ما ظهر جليًا في عبارات ابن خلدون واستشهاداته، مثل العبرة والنظر والدراسة. نعم، كانت الفترة العصيبة التي تمر فيها الأمة — سواء حملات المغول أو الحملات الصليبية أو الفرق والطوائف — هي السبب المباشر في قيام مثل هذه الدراسات؛ فالحاجة لها ملحة وضرورة من أجل الخروج من الواقع الذي وجدت فيه.

ومن هنا تظهر مآلات الأمور والنهاية الحتمية خلف الفعل، لأن الاحتلال يقع بتضحيات كبيرة من الطرفين في البدايات، ولكن بعد ذلك تصبح السيطرة على هذه الشعوب المحتلة أسهل. ويسعى المحتل إلى التحكم بمصادر هذه الأمة من غذاء ومال وقوى بشرية، وتوجيه هذه القوى بما يخدم مصالحه ووجوده. فبريطانيا كانت تستخدم الجنود الهنود (السيبويين) في عمليات السيطرة والاحتلال للهند والمناطق الأخرى، مثل ما حدث في أمريكا، حيث قاتل الجنود الهنود جنبًا إلى جنب مع القوات البريطانية، ولكن عندما ثار الهنود على بريطانيا لأسباب مختلفة، ومنها ثورتهم بسبب استخدام دهن الخنزير ودهن البقر في تغليف عبوات البارود، لم يتوان البريطانيون عن القيام بمذبحة ذهب ضحيتها عشرات الآلاف، وحسب بعض التقديرات تجاوز العدد مائتي ألف هندي، من الهنود مسلمين وهندوس في المدن الرئيسية (دلهي، كانبور، لاكنو..) وغيرها. هذا ليس ببعيد عمّا فعلته فرنسا عندما ثار الجزائريون بعد الحرب العالمية، وقتلوا ما يقرب من خمسين ألف جزائري بسبب مطالبتهم بالحرية، مع أن الجزائريين قاتلوا مع فرنسا لنيل حريتها من ألمانيا.

لكن في النهاية انتصرت المقاومة في المناطق التي صمدت فيها، وظلت تستنزف المحتل عبر الوسائل المتاحة والمختلفة وجعلت فاتورة وجوده على هذه الأرض بالغة من حيث الرجال والمال والمكانة الاجتماعية والدولية؛ مثل أفغانستان وإثيوبيا التي قاومت الاحتلال الإيطالي وأخرجته في نهاية القرن الثامن عشر رغم الخسائر الفادحة. الخسائر بين الطرفين غير متوازنة نهائيًا، بسبب التفوق العسكري والاستراتيجي والعملياتي والدعم الداخلي والدولي لبعض الكيانات المحتلة، كما حدث مع بريطانيا وفرنسا وغيرها من دول أوروبا الاستعمارية، من إسبانيا إلى البرتغال وهولندا وبلجيكا وألمانيا، حيث إنها هي من أنشأت وتسيطر على النظام الدولي، ولديها التفوق والدعم البيني بين هذه الدول المستعمرة — بكسر الميم الثانية — حيث أنها ساندت بعضها البعض ضد الثورات التي قامت بها الدول المستعمرة بفتح الميم الثانية، حيث ثبت تاريخيًا مشاركة فرنسا وهولندا والبرتغال والبريطانيين وحتى الروس في هذه الأفعال.

المقاومة تواجه تحديًا مزدوجًا: ليس فقط مواجهة القوة المادية للمحتل، بل مقاومة التأثير النفسي والثقافي ومحاولة المحتل أن يعيد كتابة التاريخ أو يفرض سرديته على هذه الشعوب. وهنا لا بد من رؤية واضحة، وتحديد للهدف النهائي للمقاومة، وقائد ملهم راسخ المبادئ والفكر والعقيدة، وتحديد منهجية للمقاومة، بكل الوسائل وفتح الجبهات المتعددة على كل الأصعدة الممكنة، والحرص على وحدة الصف الداخلي ما أمكن. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن القوى المحتلة دائمًا تنجح في إيجاد عملاء ومتعاونين من الداخل؛ وهذا ليس حال الأمم الضعيفة للأسف، وحتى دول مثل بريطانيا وفرنسا وجد فيها الألمان متعاونون وعملاء، مع أنها كانت دولًا مستعمِرة — بكسر الميم — ولكن المهم هو الزخم العام لحركة المقاومة والدعم الخارجي. وهنا لا بد من سردية بسيطة وواضحة تبسط الخطاب الداخلي والخارجي، وتفند سرديات العدو والمحتل.

متى ينكسر؟ وهنا حتى يتحقق الهدف لا بد من إدراك نقطة الانكسار لهذا العدو، ونقاط ضعفه للتركيز عليها، سواء كانت تكاليف مادية أو بشرية، أو استياء شعبي داخلي وخارجي، والتركيز على المعنويات وضعف الشرعية، والصورة الأخلاقية. والصورة الأخلاقية تحدث أثرًا كبيرًا على كافة المستويات؛ إذا رافقت صور أو أفلام تظهر حقيقة ما يقوم به العدو، لا بد من التركيز على إيصال القوى المستعمرة — بكسر الميم الثانية — إلى نقطة الإنهاك بكل السبل الممكنة، بدءًا من المقاومة، إلى هدر موارده الاقتصادية وشغله في مقاومة استنزافية مستمرة تستهلك قوته وتركيزه وقدرته العقلية والجسدية. عندها من الممكن الوصول إلى الهدف، ولكن الجميع يراهن على الآخر، وهنا أتذكر مقولة عنترة في لعبة عض الأصابع.

وهنا إن الانكسار للمحتل يعني الدخول في دوامة جديدة من الإنهاك والضعف والسيطرة على الحياة والبشر والموارد في سبيل بقاء هذا المحتل، وليس أدل على ذلك مما فعله المحتل في غزة، التي كانت شبه مكتفية زراعيًا واقتصاديًا وتجاريًا، وأدخلها في دوامة الحاجة والفقر والجوع. وهنا يبقى للإنسان الذي يقع عليه الاحتلال أن يقرر: إما أن ينخرط في المقاومة لأجل المقاومة — وهنا لا بد أن تأتي هذه المقاومة أكلها — أو يقبل أن يكون عبدًا لهؤلاء.

وهم يألمون كما تألمون،  وترجون من الله ما لا يرجون...

إبراهيم أبو حويله.