نبض البلد -
أحمد الضرابعة
يقول المبعوث الأميركي في سوريا توم باراك: "لا يوجد شيء اسمه الشرق الأوسط، بل هو عشائر وقرى، أما الدول فأوجدها البريطانيون والفرنسيون". مصطلح "الشرق الأوسط" فرض وجوده في علم الجغرافيا السياسية مطلع القرن الماضي، وهو حديث نسبياً، فظهوره كان استجابة نظرية لفكرة المركزية الأوروبية التي حرص منظّروها على النظر إلى العالم بمختلف اتجاهاته من موقع الهيمنة وتقسيمه وفقاً لذلك، فرغم العمق الحضاري الموجود في هذا الجزء الذي نعيش فيه من العالم فإن القوى الاستعمارية التي وضعت يدها عليه كانت نظرتها إليه مادية خالصة، ولذلك فإن حقوله النفطية وممراته البحرية وموقعه الاستراتيجي الفاصل بين قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا كانت من المنطلقات الرئيسية التي ألهمت السياسة الأوروبية في إدارة هذه المنطقة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية.
القرى والعشائر على حد وصف الأميركي توم باراك هي بنية اجتماعية أساسية في المنطقة، وهي ليست طارئة من الناحية التاريخية، فوجودها قديم ويتطور تبعاً للظروف السياسية التي تعيشها في كل مرحلة، وللمفارقة، فإنها هي التي قادت زمام المبادرة السياسية في أكثر من مناسبة نتيجة الفراغ الاستراتيجي الذي مرت به كمحاولة منها لمحاكاة التجارب الدولية الحديثة، وبعضها نجح في بناء كيانات توازي في حداثتها ما هو موجود في أوروبا، ففي مصر تمكن محمد علي باشا من وضع حجر الأساس لبناء الدولة الحديثة، وقاد نهضة شاملة تركت بصماتها على الإنسان المصري، وهذا كان قبل قدوم الاستعمار للمنطقة، أي أن تجربة محمد علي باشا الطموحة تبلورت ضمن سياقها المحلي وبيئتها الإقليمية، ولم تنشأ بإرادة خارجية، ولو تحررت من العوائق الأوروبية لشهدت المنطقة تحولات كبيرة من ناحية الجغرافيا السياسية.
قبل قدوم الأمير عبد الله الأول إلى مدينة معان وتأسيسه إمارة شرق الأردن حاولت العشائر الأردنية ملء الفراغ السياسي بتأسيسها حكومات محلية لحفظ الأمن والنظام، ورغم أنها كانت بلا صلاحيات أو موارد ولم تجسد المعنى الحقيقي للتشكيلات السياسية إلا أنها من المحاولات المبكرة التي سبقت الاستعمار الأوروبي وعبرت عن وعي سياسي شعبي للحظة الدولية التي فرضت نفسها على العالم بكافة أقاليمه في ذلك الحين.
يختزل الأميركيون الحكم على واقع منطقة الشرق الأوسط بمختلف مكوناتها التي تضرب جذورها في عمق التاريخ بما آلت إليه أوضاعها السياسية نتيجة عمليات التفكيك والتجزئة والعبث في الجغرافيا والديموغرافيا من قبل الأوروبيين في القرن الماضي، وهذا الحكم ناتجٌ عن قراءات موغلة في الاستشراق الذي أتاح للقوى الاستعمارية العمل بشكل منهجي على تطبيق أجندتها التي غيرت وجه المنطقة ووضعت جذراً لكل مشكلاتها التي بدأت بالانفجار على التوالي في أكثر من بلد عربي. أقول دائماً إن المقدمات تؤدي للنتائج، ولذلك فإن ما قاله توم باراك يتجاهل السياقات السياسية والتاريخية التي رافقت بناء الدول الوطنية في الشرق الأوسط ويُقزم مكانة الشعوب والأمم في هذه المنطقة التي تحولت إلى ملعب مفتوح للسياسات الاستعمارية التي أنتجت هذا الواقع الذي ينتقده باراك. أخيراً لم يكن باراك وحيداً في تقديم هذه النظرة المتعالية للمنطقة، فقد سبقه في ذلك نتنياهو الذي وصف الفلسطينيين بأنهم "حيوانات بشرية"، وما بين إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية شراكة عميقة تصل إلى حد إلغاء كل ما هو موجود في الشرق الأوسط وليس الاكتفاء باحتقاره.