كيف تتحكم البنوك المركزية بالاقتصاد العالمي؟

نبض البلد -

 

بلاسمة: تحولت إلى ما يشبه حكومات ظل لا تخضع للمساءلة

ديه: رفع الفائدة يزيد الأعباء على المقترضين ويبطئ الأسواق العالمية

 

الأنباط – عمر الخطيب

في عالم يتشابك فيه المال بالسياسة والاقتصاد بالمجتمعات، تبرز البنوك المركزية باعتبارها المؤسسات الأكثر تأثيرا في صياغة المسار الاقتصادي العالمي، وبينما يراها البعض حارسا للاستقرار النقدي، ينظر إليها آخرون كـ أدوات للهيمنة وصناعة الأزمات.

وفي هذا السياق، لن يكون اجتماع الفيدرالي الأمريكي في 16 و17 سبتمبر 2025 حدثا عابرا في روزنامة الاقتصاد وإنما اختبارا حيا لـ مدى قوة هذه المؤسسات، فالقرار بـ شأن أسعار الفائدة لن يقتصر أثره على أمريكا بل سيعيد رسم خريطة الائتمان العالمي بأنه من يمنح قرضا ومن يُستثنى من ينمو اقتصادُه ومن يُكبّل. الأسواق العالمية تترقب هذا الاجتماع بقلق بالغ فهو يكشف عن الاحتكار الخفي لـ صناعة المال وصانعها الحقيقي "البنوك المركزية".

قرارات الفيدرالي في هذا الاجتماع ليست مجرد خطوط فنية وإنما خيارات استراتيجية تحدد من سيعاني ومن سيستفيد في أمريكا ودول تتابع الدولار وأسعار القروض وأمنها المالي، حيث تشير دراسات مثلNew York Fed وJustMoney / University College London إلى أن مشتريات الأصول التوجيه الائتماني، والتنسيق بين البنوك المركزية الكبرى لها آثار توزيع اقتصادي وسياسي واسعة النطاق لا يمكن تجاهلها. فهل سيعلن الفيدرالي سياسة تعيد بعض التوازن؟ أم سيشدّد قبضته على الإقراض في الاقتصاد الحقيقي، ويفسح المجال أكثر للمضاربة؟ العالم يراقب… ليس لأنه يهتم بالتفاصيل، بل لأن هذه التفاصيل تحدد من يُبنى ومن يُدمّر.

 

كيف تصنع البنوك النمو

حيث تقوم البنوك المركزية رسميا بـ مهام واضحة مثل ضبط معدلات التضخم والمحافظة على استقرار الأسعار ودعم العملة الوطنية، لكن دورها الحقيقي يتجاوز ذلك بـ كثير، كما يوضح الخبير والمستثمر في مجال الطاقة فراس بلاسمة، أن هذه المؤسسات لا تكتفي بـ إدارة "الأعراض" الاقتصادية، وإنما تتحكم في أصل العملية وهو "خلق الائتمان"، فـ المصارف التجارية تخلق أموالا جديدة عبر منح القروض وأنها لا تقتصر على الوساطة بين المدخرين والمستثمرين كما يدرس تقليديا، وهنا يتدخل البنك المركزي لـ يحدد من يستفيد من هذا الائتمان وفي أي قطاعات يُضخ ما يعني عمليا التحكم بـ مسار النمو الاقتصادي.

 

التوجيه الائتماني وصناعة الأزمات

 

وبحسب بلاسمة فإن تدخل البنك المركزي لا يقتصر على حجم القروض فقط وإنما بتوجيه الاقتصاد نفسه، هل يتوسع في العقار؟ يدعم الصناعة؟ أم يفتح المجال للطاقة المتجددة؟ وهذا ما يجعل قراراته بـ مثابة "المفتاح" الذي يحدد طبيعة النمو وجودته، والأداة الأكثر حساسية كما اشار بلاسمة هي التوجيه الائتماني، لأنها تحدد إن كان التمويل يذهب إلى الاقتصاد الحقيقي أم يترك لـ تغذية المضاربات في الأسهم والعقارات.

ويمتد دور البنوك المركزية كما يلفت بلاسمة إلى صناعة الأزمات نفسها، وإن الكثير من الأزمات لم تكن طبيعية، بل هي نتاج سياسات متعمدة كما حدث في اليابان حين لعب بنكها المركزي دورا رئيسيا في تضخيم فقاعة الأصول في الثمانينات ثم في تفجيرها لاحقًا، ما أدى إلى "العقد الضائع" وهو ما يجعل سياساتها تتجاوز الطابع الفني إلى بعد سياسي واستراتيجي.

 

القوة الخفية العالمية

ويذهب بلاسمة إلى أبعد من ذلك حين يشير إلى أن البنوك المركزية تحولت إلى ما يشبه بـ "حكومات ظل" لا تخضع لـ مساءلة ديمقراطية حقيقية، فهي حين تتحكم بـ تدفق الائتمان، فإنها تتحكم ضمنيا بـ مصائر قطاعات اقتصادية و بمجتمعات بـأكملها، ومع العولمة المالية أصبح نفوذها يصوغ توجيهات الاقتصاد العالمي عل نحو يتجاوز احيانا الحكومات المنتخبة نفسها ( كما في حالة الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا وبنك اليابان).

 

بين الاستقرار والسلطة

وفي مواجهة هذا النفوذ، يطرح بلاسمة بدائل تقوم على تعزيز البنوك المحلية التعاونية (community banks) التي تعيد توجيه الائتمان نحو المشروعات الإنتاجية بدل المضاربات المالية، بما يمنح المجتمعات سلطة أكبر على مواردها الاقتصادية، إضافة الى أنه يدعو إلى إخضاع البنوك المركزية لـ رقابة ديمقراطية تجعلها أكثر شفافية وخضوعا للمساءلة الشعبية، وهنا يبرز التساؤل الجوهري هل البنوك المركزية أدوات لـ تحقيق الاستقرار والازدهار، أم أدوات سلطة تتحكم بمصائر الدول والشعوب؟

 

رفع الفائدة وتأثيره على الاقتصاد

 

من جانبه اكد خبير الاقتصادي منير ديه أن دور البنوك المركزية وخاصة على اسعار الفائدة اذا تم رفعها وخاصة الفدرالي الامريكي سيؤدي ذلك الى تشديد السياسة النقدية وأعباء اقتصادية عالمية وحالة ركود تضخمي وزيادة الاعباء على المقترضين سواء افراد او حكومات او شركات، مبينا تأثيرها على القطاعات عن طريق سحب السيولة من الاسواق وقلة الطلب وتراجع الاسواق العالمية.

وأشار ديه انه عندما ارادت البنوك المركزية وعلى راسها الفدرالي الامريكي مواجهة ارتفاع التضخم الذي بلغ مستويات قياسية بعد ازمة كورونا وحرب الاوكرانية الروسية وتأثير ذلك على سلاسل الامداد وتوريد وانخفاض الإنتاج، بـالتالي ارتفعت اسعار السلع وزاد التضخم الى مستويات قياسية غير معهودة، موضحا ان البنوك المركزية اضطرت الى التدخل ورفع اسعار الفائدة 11 مرة حيث ادى ذلك الى زيادة في اعباء الحكومات المقترضة أو على الافراد وشركات .

أداة ضبط الاقتصاد العالمي.

وأضاف أن ارتفاع أسعار الفائدة يرفع كلفة خدمة الدين على المقترضين ما يعني زيادة الأعباء المالية عليهم وتراجع قدرتهم على الاقتراض أو التوسع في الاستثمار، مبينا أن الارتفاع يشجع الأفراد والشركات التي تمتلك سيولة على إيداع أموالها في البنوك للاستفادة من العوائد المرتفعة، الأمر الذي يسحب جزءا من السيولة من الأسواق ويؤدي إلى تباطؤ في عمل القطاعات الاقتصادية عالميا، مشيرا الى أن قرار البنوك المركزية بشأن رفع أو خفض الفائدة يعد عاملا أساسيا في توجيه حركة الأسواق، ومع بداية خفض الفائدة في الأشهر الأخيرة من عام 2024 واستمرار التوقعات بـ مزيد من التخفيضات، ينتظر أن تخف الضغوط على المقترضين ويزداد الطلب على السلع والخدمات بما ينعكس إيجابا على مختلف القطاعات الاقتصادية.

 

وتابع ديه أن ارتفاع أو خفض أسعار الفائدة يترك أثرا مباشرا على الأسواق العالمية، إذ ترتفع قيمة الدولار مع زيادة الفائدة وتنخفض مع تراجعها، بينما يتحرك الذهب بعكس الاتجاه، إلى جانب تأثر السندات وأسواق المال والنفط والسلع الأساسية، ويكمن جوهر المسألة في تحكم البنوك المركزية وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي بـ هذه الأداة التي تحدد مسار الاقتصاد وتوجه حركة الأسواق صعودا أو هبوطا.