حِسبة الأردن ومصر مختلفة كليًا

نبض البلد -

حاتم النعيمات

من المجحف أن يصنِّف البعض الأردن ومصر وكأنهما دول بلا سيادة كلما إخترقت إسرائيل سيادة أي دولة في المنطقة في الفترة ما بعد السابع من أكتوبر، فمرجعية الكثير من هذه الآراء نابعة من رغبات وليس من أفكار وتمعُّن، فمن يقرأ المشهد يعرف أن هناك تيارات فكرية في المنطقة ما زالت تحاول الانتقام من أي دولة متماسكة.

البلطجة الإسرائيلية في المنطقة لها مسار محدد يخص دول أصبحت ضعيفة بسبب الربيع العربي أو النفوذ الإيراني، فكانت المواجهة في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر وما تلاه من حرب مفتوحة في غزة، وما تبعها من محاولات لتصفية حسابات مع القوى الداعمة لحماس أو المتقاطعة معها. أي باختصار، إسرائيل لا تتعامل مع الجميع بنفس المعيار ولا بنفس الخطوط الحمراء.

أتحدى أن تجد خبيرًا عسكريًا أو استراتيجيًا "عاقلًا” يقول إن إسرائيل تستطيع أن تتجاوز الخطوط مع الأردن ومصر بالطريقة نفسها التي تتجاوز بها في دول أخرى بالمنطقة. لماذا؟ لأن الأمر ببساطة ليس مجرد قصة "ثور أبيض وثور أسود” كما يحب البعض أن يروّج، بل هو قصة جغرافيا وتاريخ وتجارب وعلاقات مركبة. الأردن ومصر ليسا ساحتين فارغتين، بل هما دولتان لديهما سجل مواجهات مع إسرائيل، وعلاقات دولية معقدة، وتجارب طويلة في إدارة القضية الفلسطينية، وهذه ليست تفاصيل يمكن القفز عنها ببساطة.

قد يقول قائل: هل معنى ذلك أن لا خوف؟ أو أن إسرائيل عاجزة بالمطلق؟ والجواب بدون شك: لا. المطلوب دائمًا أن نكون على درجة عالية من الجاهزية واليقظة، لأن التجارب علمتنا أن إسرائيل لا تتورع عن خرق الاتفاقات، ولا تتردد في اختبار حدود الصبر. لكن في الوقت نفسه، من الخطأ أن نقزم أنفسنا ونرتمي أمام حملات التشويه والتضليل التي تصور الأردن ومصر كأنهما بلا وزن أو بلا خيارات.

السياسة ليست شعارات، بل موازين قوى، صحيح أن إسرائيل تملك آلة عسكرية متطورة، لكنها أيضًا أسيرة حسابات معقدة كدولة من الصف الثاني. فهي تعرف أن تجاوز خطوط واضحة مع مصر أو الأردن يعني فتح أبواب أزمات ملاصقة جغرافيًا وعميقة من الناحية الجغرافية، وأن هذه الأزمات ليست في مصلحتها لا على المستوى الأمني ولا الدبلوماسي. من هنا يأتي الفرق بين ما يجري في جبهات أخرى وبين ما يخص الأردن ومصر.

الأردن تحديدًا – بتاريخه الطويل مع الاحتلال – يعرف جيدًا كيف يوازن بين الردع والحكمة. لا يفرّط في حقوقه، ولا يغامر بقرارات غير محسوبة. ومصر أيضًا، بتاريخها وحجمها وثقلها العسكري والسياسي، تدرك أن علاقتها مع إسرائيل ليست مجرد ملف أمني، بل هي ورقة إقليمية لها أبعادها الاستراتيجية.

حين يخرج البعض ليقول إن الأردن أو مصر مجرد دول "مستباحة”، فهو في الحقيقة يظلم ما قدمته الدولتان من دماء وتضحيات. نحن لسنا في موقع المثالية ولا في موقع الضعف المطلق، نحن أمام مشهد معقد، فيه توازنات دقيقة، وفيه مساحات للمناورة، وفيه أيضًا خطوط حمراء لا يمكن عبورها.

لذلك، المطلوب أن نخرج من خطاب "الانكسار الأبدي” الذي يحاول بعضهم إلصاقه بالأردن ومصر، وأن نستبدله بخطاب وعي سياسي وفهم استراتيجي. المطلوب أن نثق بأن لنا وزنًا، وأن وزننا لا يقاس فقط بعدد الدبابات أو الطائرات، بل يُقاس أيضًا بالاستقرار، وبالتحالفات، وبقدرتنا على إدارة التوازن في أصعب الظروف.

القصة إذن ليست قصة "ثور أبيض أُكِل يوم أُكِل الثور الأسود”. بل هي قصة دول تعرف أين تقف، وكيف تحمي نفسها، ومتى ترفع السقف، ومتى تختار التهدئة, القصة قصة تجارب مرة، وتاريخ طويل من المواجهة والاحتكاكات، وجغرافيا لا تسمح بالعبث.

أن نكون على جاهزية أمر لا نقاش فيه، وأن نثق بأنفسنا وقدراتنا، أمر لا يقل أهمية. أما أن نستسلم لحملات منبعها العداء مع فقه الدولة الوطنية لصالح الأيدولوجيا العابرة للحدود والتي تفرض علينا أن نكون جزء من كل دائمًا، وتترك رواسب فكرية تنتقص من قدرات الدولة الوطنية، لذلك سجب ألا نقبل بتصوير أنفسنا كأننا بلا سيادة ولا وزن، فالأردن ومصر، مهما اختلفت الظروف وتعقدت الحسابات، ما زالا حجر زاوية لا يمكن تجاوزه في المنطقة.