نبض البلد - ابراهيم ناصر
شهدت الفترة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1967 أحداث كبيرة في العالم والاقليم كان لها الأثر الكبير على الأردن. فبسبب النكبة الفلسطينية عام 1948 والنكسة عام 1967 وما نتج عنهما من تهجير لآلاف الفلسطينيين، حدثت تغيرات وحراك اجتماعي واقتصادي وسياسي في المدن الأردنية، خاصة في مدينة عمان، وما رافق ذلك من استقرار سياسي في الدولة الاردنية، أصبحت عمان مركزا تجاريا واقتصاديا مهما، وهذا أثر بشكل كبير على التركيبة الديموغرافية والبنية الثقافية لمدينة عمان.
ومع التطور الاقتصادي والتعليمي وتطور البنية التحتية في مدينةعمان وزيادة فرص العمل، جعلها مركز جذب لرؤوس الأموال الفلسطينية والشامية، والقوى العاملة من عمال مهرة، وموظفين حكوميين، واداريين، وسياسيين، خاصة من المدن والأرياف الأردنية. هذا التنوع الفسيفسائي لسكان عمان، خصها بميزة لم تتوفر في المدن الأردنية الأخري، حيث انصهر سكان المدينة من مختلف أصولهم ومنابتهم في بوتقة واحدة، ليشكلوا هوية خاصة لهم، يمكن اعتبارها هوية عمانية متمايزة عن المدن والارياف الاخرى. على سبيل المثال، العديد من السياسيين والاداريين ورجال الأعمال والادباء والمثقفين، الذين هجروا قراهم ومدنهم ليستقروا في عمان، واصبحت زياراتهم وابناؤهم الى مسقط رؤوسهم وبلداتهم الاصلية متباعدة ،وصار لهم هوية مختلفة الى حد ما عن اقربائهم الذين بقوا في بلداتهم الاصلية، خاصة عند الأبناء الذين ولدوا وتعلموا في مدينة عمان، حيث اكتسبوا ثقافة جديدة، وحتى لهجة جديدة، مختلفة عن أقرانهم في بلداتهم الاصلية.
هذا التغير والتطور، وتفاعل السكان مع بعضهم البعض، كان له أثر واضح على الحركة الثقافية والأدبية والفنية في المدينة، وحفز البعض لالتقاط هذه التغيرات، والكتابة عنها بحثا أو رواية أو شعرا أو قصة. فعلا سبيل المثال لا الحصر، كانت رواية "أبناء القلعة" للمرحوم زياد قاسم، والتي صدرت عام 1992 خير مثال على ذلك، حيث اختار زياد منطقة القلعة في وسط عمان نموذجا مصغرا عن المدينة بكل شرائحها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وراح بقلمه كمشرط الجراح يشرح مجتمع القلعة، ويتتبع مراحل تكونه وتبلوره وتطوره منذ عام 1948 الى 1967 مشخصا حالة هذا المجتمع، وسبر أغوار شخصياته، وتفاعلها مع بعضها البعض، لتكون هوية خاصة بمجتمعها الفسيفسائي. وكان بارعا في تشخيصه وتقديم شخوص روايته، حيث أن من يقرأ الرواية، خاصة من أبناء عمان- وأنا واحد منهم، ولدت عام 1962 في حي المهاجرين، وترعرعت في أحياء وحواري عمان- وبدون وعي منه يشعر أنه أحد هذه الشخصيات، وأنه يعرف جميع الشخوص كانهم أحياء حقيقيون، ليسو غريبين عن سكان عمان.
لكن من المفارقة العجيبة، أن هذا التفاعل والتجانس بين جماعات وأفراد سكان مدينة عمان، ورغم تشكل هويتهم الخاصة، وهوية المدينة، عبر سنين طويلة، قلما تجد شخصا ولد وترعرع في مدينة عمان، اذا ما سألته من أين أنت يجيب أنا "عماني" بل ودون تردد يجيبك أنه من بلده او بلدته او بلد ابيه الاصلي أو عشيرته. كأنه وبلا وعي منه يتنكر لمدينة عمان بانتمائه الى بلده او بلدته الاصل أو عشيرته. واذا دققت أكثر في مكونات سكان المدينة، لاحظت أن سكانها عبارة عن مجتمعات صغيرة، متمايزة عن بعضها البعض في مجتمع المدينة الاكبر.