نبض البلد -
ولاء فخري العطابي
أيُّ حياةٍ هذه التي تُلقي بإنسانٍ أعزل في وجه الذئاب؟ أيُّ قدرٍ هذا الذي يجعل من راتب شهرٍ كامل آخر خيطٍ يتدلّى بين الكرامة والجوع؟
في لحظة عابرة، قد يتحوّل راتب شهر كامل إلى غنيمة في يد لصّين، لكن ما يُسرق ليس المال فقط، بل كرامة إنسان وأمان أسرة كاملة، المشهد الذي جسّدته الممثلة مرام علي في شخصية سلمى، لم يكن مشهدًا دراميًا عابرًا، بل مرآة حقيقية تعكس وجعًا يوميًا يعيشه آلاف الناس في واقعنا.
"سلمى" امرأة تمشي بخطواتٍ مثقلة كأنها تحمل الأرض فوق كتفيها، في حقيبتها أوراق قليلة لكنها تساوي عندها بيتًا مأهولًا، سقفًا لا يسقط على أولادها، وليلًا أقل قسوة وحين وعدت صاحب البيت أن تسلّمه الأجرة فور قبض راتبها كان ذلك العهد بالنسبة لها وعد حياة.
لكن على الرصيف، بين غبار النهار وصخب المارة كان لصّان بانتظارها، اندفع أحدهما ليدفعها بقسوة بينما خطف الثاني حقيبتها كما لو أنّه ينتزع قلبها من صدرها، ولكن سلمى لم تستسلم شدّت على الحقيبة بكل ما بقي لها من قوة، كأنها تتشبّث بآخر أمل في الحياة ولكنها سقطت، وارتطم جسدها الضعيف بأرضٍ لا ترحم لم يكن المسروق مالًا فحسب، بل الأمان والطمأنينة والكرامة.
المشهد لم يكن مجرد تفصيل درامي، بل وجع حقيقي يُشبه وجع الناس من حولنا، فالفقر ليس عجزًا فقط بل فخٌّ منصوب في كل زاوية، ينتظر لحظة غفلة كي يسرق تعب العمر، وهنا تجلّى الأداء البارع للممثلة مرام علي، التي حملت شخصية سلمى بكل تفاصيلها، وجعلتنا نصدّق وجعها كأنّه وجعنا.
لكن وجع سلمى لا يتوقف عند حقيبة مسروقة، هناك وجوه أخرى للفقد نعيشها يوميًا في أماكن عملنا، فكم من إنسان يكرّس وقته وجهده، يعطي من قلبه، يبني ويتعب ويجتهد، فقط ليحصل على لقمة عيشه ومع ذلك يجد نفسه في معركة غير عادلة؟ في بيئات العمل، لا يكفي أن تكون نزيهًا ومخلصًا، لأن هناك دائمًا أسافين تُدقّ في الظهر، ومحسوبيات تُقلب الحقائق، فتضع الأوفى في الخلف وتُقدّم أصحاب المصالح في الصفوف الأولى.
الأدهى من ذلك أن بعض المسؤولين ينجرفون وراء هذه الأصوات، فيستمعون إلى من لا يستحقون ويُهمّشون من يستحق، وهكذا بدل أن تكون الوظيفة مساحة إبداع وإنتاج، تتحوّل إلى ساحة صراع غير عادل يخسر فيها الأصدق، بينما يتقدّم من يجيد اللعب في الظل.
تمامًا كما فقدت سلمى راتبها وهي تكافح من أجل بيتها، يفقد كثيرون في أعمالهم شعورهم بالعدل رغم جهدهم وعرقهم، الرسالة قاسية: أن الكرامة ليست معركة واحدة بل سلسلة معارك ضد الفقر، وضد الظلم، وضد قلوب قاسية لا ترى سوى مصالحها.
سلمى لم تعد شخصية عابرة في مسلسل، بل صارت رمزًا حيًّا لكل إنسان يدفع ثمن عرقه مرتين: مرة حين يعمل، ومرة حين يُسلب منه في لحظة لا ترحم، وسقوطها يذكّرنا أن الراتب ليس مجرد رقم، بل حياة كاملة، وكرامة، تمامًا كما أنّ العمل ليس مجرد وظيفة، بل امتحان يومي للعدل والإنصاف.