غزة والعدسة الأخلاقية: قراءة في خطاب الملكة رانيا العبدالله

نبض البلد -

د. خالد العاص

في عالم مضطرب تغيب فيه البوصلة الأخلاقية، جاءت كلمة جلالة الملكة رانيا العبدالله في المكسيك لتعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نقيس إنسانيتنا؟ فقد حمل خطابها دلالات عميقة تتجاوز مجرد وصف الواقع في غزة، ليصبح بمثابة دعوة لإعادة تقييم القيم والمعايير التي تُبنى عليها الحضارة والقيادة في القرن الحادي والعشرين.

رسمت الملكة صورة قاتمة لحجم الكارثة الإنسانية في غزة، معتبرة أن المأساة لا تقتصر على حدود الجغرافيا الفلسطينية، بل تتحدى الضمير العالمي بأسره. ما يحدث من قتل وتجويع وقصف للمستشفيات ليس مجرد مأساة محلية، بل امتحان لإنسانية العالم، يكشف كيف يمكن تحريف الحقائق وتجريد شعب بأكمله من إنسانيته.

أشارت الملكة بوضوح إلى أن التقدم لا يُقاس بالناتج المحلي أو القوة الاقتصادية، بل بكيفية تعامل المجتمعات مع الضعفاء في لحظات الأزمات. هذا الطرح يضعنا أمام معضلة الحضارة الحديثة التي تساوي بين التفوق الاقتصادي والتفوق الأخلاقي، في وقت يُهمَّش فيه صوت الدول النامية، ويتم التغاضي عن القيم الإنسانية المشتركة.

اللافت في خطاب الملكة كان إشادتها بالشباب حول العالم، الذين كسروا جدار الصمت تجاه معاناة الفلسطينيين. هؤلاء الشباب، كما وصفتهم، خاطروا بمستقبلهم وسمعتهم لإيصال صوت شعب لم يلتقوه، فشكّلوا تجسيداً حيّاً للشجاعة الأخلاقية في عالم يحاول اختزال الإنسان إلى أرقام وإحصاءات.

الخطاب حمل أيضاً بعداً روحياً وفلسفياً، حيث أكدت الملكة أن الإنسان بحاجة إلى "مرساه الأخلاقي"، سواء كان ديناً أو قيماً إنسانية عليا، ليتمكن من مواجهة الفوضى والضجيج الذي يطغى على العالم. بهذا الطرح، يصبح الوعي الفردي والضمير الحي وسيلة لإعادة اكتشاف جوهر الإنسانية والعودة إلى الفطرة.

لكن البعد الأبرز لخطاب الملكة كان في تأثيره السياسي والاستراتيجي؛ فهو لم يكن موجهاً فقط للضمير العالمي، بل أيضاً لصانعي القرار في الغرب، حيث يضعهم أمام حرج أخلاقي وسياسي؛ فالدول التي تدّعي حماية حقوق الإنسان تجد نفسها متهمة بدعم أو غض الطرف عن ممارسات تُجوع شعباً وتدمر مستشفيات. بهذا المعنى، يشكّل الخطاب أداة ضغط غير مباشرة على السياسات الغربية، ويحرّك الرأي العام العالمي، خصوصاً بين الشباب، لمساءلة حكوماتهم والضغط باتجاه مواقف أكثر عدلاً وتوازناً.

أما على صعيد صورة الأردن، فقد عزز الخطاب مكانة المملكة كصوت أخلاقي وإنساني فاعل في المحافل الدولية. فالاستشهاد بالتجربة الأردنية في استضافة اللاجئين، لم يكن مجرد سرد تاريخي، بل تأكيد على أن الأردن يمارس ما يعظ به. وهذا يفتح الباب أمام المملكة لتوسيع دبلوماسيتها الناعمة، بما يجعلها شريكاً موثوقاً في النقاشات الدولية حول القيم والإنسانية، إضافة إلى دورها التقليدي في ملفات السياسة والأمن.

خطاب الملكة رانيا لم يكن مجرد موقف إنساني عابر، بل إعلاناً استراتيجياً بأن غزة تحولت إلى عدسة أخلاقية عالمية، عبرها يُختبر صدق القيم، وتُقاس مصداقية الشعارات الغربية، ويُعاد تعريف القيادة والتحضر. وفي قلب هذا الخطاب برز الشباب كرمز للأمل، والأردن كصوت للإنسانية، والفرد كحارس لبوصلة أخلاقية لا ينبغي أن تفقد اتجاهها.