ماذا نفعل في أيام الحر في المباني العامة

نبض البلد -
ماذا نفعل في أيام الحر في المباني العامة
د. أيوب أبودية

تشهد منطقتنا في السنوات الأخيرة موجات حر طويلة وقاسية، جعلت من حرارة الصيف تحديًا متزايدًا أمام صحة الناس وإنتاجية المؤسسات العامة والخاصة. وبينما يتعامل العالم مع التغير المناخي عبر خطط للتكيف وزيادة كفاءة الطاقة، يبقى ترشيد استهلاك الكهرباء في المباني العامة والخاصة أمرًا جوهريًا، لا يقل أهمية عن التوسع في مصادر الطاقة المتجددة، حيث إن نحو نصف الكهرباء المنتجة في الأردن تستهلكها الأبنية الخاصة والعامة.

ومن المشاهد المؤسفة التي تتكرر في ذروة الحر، أن تعمل أجهزة التكييف بكامل طاقتها في الدوائر الحكومية أو الجامعات أو البنوك بينما الأبواب والنوافذ مفتوحة. هذا السلوك، الذي قد يبدو تفصيلاً بسيطًا، في الحقيقة يمثل نزيفًا للطاقة وزيادة للضغط على الشبكة الكهربائية، وارتفاعًا غير مبرر في فواتير تُدفع من المال العام.

إن معالجة هذه الظواهر لا تكفي فيها النصائح العامة أو حملات التوعية، بل تتطلب قرارات ملزمة وتعليمات واضحة تصدر من مستويات عليا كديوان رئاسة الوزراء أو الوزراء المعنيين. ويمكن أن تشمل هذه التعليمات:

1. فرض غرامات إدارية على أي مؤسسة تُشغّل أجهزة التكييف مع إبقاء النوافذ أو الأبواب مفتوحة. وتركيب فاصل كهربائي عند النوافذ بحيث يتوقف عمل المكيف تلقائيا اذا فتحت النوافذ أو الأبواب.
2. تحديد درجات حرارة قياسية موحدة (26° صيفًا، 19° شتاءً) للحد من المبالغة في التبريد أو التدفئة.
3. اعتماد أنماط لباس صيفية عملية وخفيفة داخل المؤسسات المكيفة، والابتعاد عن الملابس الثقيلة غير الملائمة.
4. تعيين "ضابط ارتباط للطاقة” يتابع سلوك الموظفين واستهلاك الكهرباء ويرفع تقارير دورية.

الفوائد لا تتوقف عند خفض فاتورة الكهرباء، بل تمتد إلى حماية الصحة العامة. فالتباين الكبير بين حرارة الخارج والمكاتب المبردة بشكل مبالغ فيه قد يؤدي إلى صدمات حرارية Thermal Shock، ويزيد من انتشار أمراض الجهاز التنفسي حتى في فصل الصيف. وتشير التقديرات إلى أن توفير درجة واحدة إضافية في ضبط المكيفات يوفر نحو -5 8 % من استهلاك الطاقة، ما يعني على مستوى آلاف المباني وفورات تعادل إنتاج محطة توليد كهرباء كاملة.

إلى جانب القرارات الملزمة، تبرز الحاجة إلى نشر ثقافة المسؤولية بين أوساط الموظفين والمراجعين، عبر حملات داخلية وملصقات إرشادية تذكّر بضرورة إغلاق النوافذ، وضبط أجهزة التكييف، وعدم تبريد أو تدفأة مساحات فارغة. كما يمكن تعزيز ذلك بتقنيات مساعدة مثل الحساسات التي توقف المكيفات عند فتح النوافذ، أو تحسين العزل الحراري للغرف والأسقف، أو تركيب طبقات زجاجية مزدوجة وتظليل النوافذ.

البعد البيئي حاضر بقوة في هذه المسألة؛ فكل كيلوواط - ساعة نوفره في استهلاك الكهرباء يقلل من الانبعاثات الكربونية المرتبطة باستهلاك الوقود الأحفوري، وهو تقريبا نصف كيلوغرام من غاز ثاني أكسيد الكربون في حال حرق الغاز، وأكثر من كيلوغرام في حال حرق الفحم أو الوقود الثقيل. وبالتالي فإن ترشيد استهلاك الكهرباء ليس مجرد خيار اقتصادي بل التزام أخلاقي تجاه البيئة لتحقيق استدامة وسلامة الأجيال القادمة.

إننا بحاجة إلى تعليمات حازمة مدعومة برقابة فعّالة، تجعل من الترشيد ممارسة يومية وثقافة مؤسسية راسخة، لا استثناءً أو مبادرة موسمية. فالتحدي لم يعد رفاهية مرتبطة بتقليل فاتورة الكهرباء فقط، بل أصبح قضية سيادة وطنية، تتصل بأمن الطاقة وكرامة المواطن وقدرته على العيش في بيئة مريحة وصحية.

إن مواجهة الحر ليست بالمكيفات وحدها، ولا بزيادة ساعات العمل لمحطات الكهرباء، أو بتشغيل محطات جديدة في حال الذروة، بل بالعقلانية والانضباط والمسؤولية، وبإدارة ذكية للطاقة تحفظ الصحة والمال والبيئة في آن واحد. فكل مؤسسة تُغلق نافذة مفتوحة أثناء تشغيل المكيف، وكل موظف يلتزم بضبط درجة الحرارة عند المستوى الموصى به، وكل مدير يتابع استهلاك مؤسسته بدقة، يشارك في معركة صامتة ولكنها مصيرية ضد الهدر والاعتماد المفرط على الخارج.

إن تبني ثقافة ترشيد الطاقة يعني أن تصبح الإدارة الواعية جزءًا من السلوك اليومي للمجتمع، كما هو الحال مع قواعد المرور أو القوانين الصحية. عندها فقط ننتقل من مرحلة ردّ الفعل إلى صناعة الوعي الاستباقي، ومن الاستنزاف المستمر إلى الادخار الذكي الذي يفتح آفاقًا أرحب للاستثمار في الصحة والتعليم والتنمية.

وبهذا المعنى، فإن إدارة الطاقة لا تنفصل عن بناء الدولة الحديثة؛ فهي تجسد رؤية حضارية ترى في الانضباط سبيلاً للحرية، وفي الترشيد طريقًا للسيادة، وفي احترام البيئة التزامًا تجاه بيئة الأجيال القادمة واستدامة معيشتهم.