نبض البلد - في الأحياء الجنوبية من مدينة الفاشر، وتحت شمس دارفور الحارقة، حيث الهواء ثقيل برائحة الغبار واليأس، تتحرك نورا عبد الرحمن (35 عاماً) بعربة خشبية صغيرة يعلوها كيس من الطحين ومواد غذائية أخري.
المعلمة التي طالما وقفت أمام تلاميذها تزرع فيهم الأمل بأقلام ودفاتر، تقف اليوم في مواجهة الموت نفسه، فهي متطوعة تقوم بتوزيع ما يتوفر لها من طحين الذرة كخيط حياة لمئات العائلات المحاصرة بين جدران الجوع والخوف.
في اليوم الذي رافقناها، كانت (نورا)، تتنقل بين البيوت، تطرق الأبواب بابتسامة ودودة، وتضع أمام بعض البيوت كيسا من الطحين او زجاجة زيت.
عندما سألناها عن الفكرة، جلست على حافة سور قديم، ومسحت العرق عن جبينها قبل أن تقول "في أول يوم أغلقت فيه المدرسة أبوابها مع اشتداد المعارك في المدينة، رأيت تلاميذي يغادرون، بعضهم لا يعرف إن كان سيعود، بدأ الجيران يطرقون الأبواب طلبا لملعقة سكر أو كوب من الزيت، تذكرت دفتر الفصل، لماذا لا يصبح دفترا آخر؟ دفتر العائلات الجائعة".
وتابعت، وهي تقلب صفحات الدفتر، بدأت أسجل الأسماء: من لديه طفل مريض، من فقد معيله، الأرملة فلانة، والجدة فلانة، كانت هذه خطوتي الأولى".
وتضيف نورا "البداية كانت فكرة فردية استندت علي تبرعات أقوم بجمعها من الجيران ميسوري الحال، ولاحقا تطورت إلى ما يشبه المنظمة الخيرية".
في شوارع الأحياء الجنوبية من الفاشر، حيث تمتزج أصوات النداء مع وقع الخطى على التراب، تمضي نورا كخيط ضوء يمر بين الظلال، جسدها النحيل يتمايل قليلا تحت ثقل أكياس الطحين، لكنه لا ينحني.
في تجوالها وسط الأحياء والذي يبدأ باكرا مع شروق الشمس، ترتدي (نورا) ثوبا فضفاضا بلون الأرض، وغطاء رأسها البسيط، وكأن أشعة الشمس نفسها قد تعلقت على جبينها.
في طريقها إلي البيوت التي تعرفها جيدا، كانت نورا تدفع عربتها الخشبية الصغيرة، وعليها بضع (أكياس) من طحين الذرة، والدفتر لا يفارقها أبدا، إذ يضم أسماء لا تنام من الجوع.
أول محطة كانت بيت "أم نادر"، وهي امرأة في العقد الرابع من العمر، ولديها خمسة أطفال، طرقات (نورا) علي باب خشبي متهالك كانت خفيفة، لكنها تحمل في طياتها بشارة، انفتح الباب، فخرجت أم نادر بملامح شاحبة، وعينين متعبتين من السهر على أطفالها، ولكن ابتسامة صغيرة علت وجهها عندما وضعت (نورا) في يدها كيس الدقيق وزجاجة الزيت.
واصلت نورا المسير عبر الأزقة الضيقة، تتخطى برك الطين، وتتفادى بقايا حطام سقط من الأسطح، وعند بيت العم (حسن)، جلست قليلاً على عتبة الباب لتلتقط أنفاسها، ثم ناولته كيسا من طحين الذرة، ونحو كيلو من العدس.
وفي الحي الثاني، كانت الشمس قد ارتفعت، والحر بدأ يخنق الأزقة، مرت (نورا) على بيتٍ صغير، وهناك سلمت كيسا من الطحين وشيئا من السكر.
ومع كل بيت، كانت المعلمة تدون ملاحظة في دفترها: "انتهى الزيت هنا"، "الأطفال بحاجة لأحذية"، "الأم مريضة وتحتاج دواء"، لم يكن الدفتر مجرد سجل، بل خارطة إنسانية ترسمها خطوة خطوة.
في الصورة الملتقطة يوم 9 يوليو 2025، أطفال يساعدون في تحضير الطعام في مخيم للنازحين في الفاشر، ولاية شمال درافور، السودان.(شينخوا)
-- تحديات لا ترحم
مع اقتراب غروب الشمس، عادت (نورا) إلى بيتها، حذاؤها مبلل من الطين، وكتفاها مثقلتان، لكن قلبها كان أخف من الريح، وضعت الدفتر على الطاولة، وشرعت في وضع خطة لليوم التالي.
تقول نورا انها لا تترك شيئا للصدفة، فهي لا تكتفي بالتوزيع العشوائي، بل تعتمد نظاما يقوم علي: (التسجيل) عبر دفتر مدرسي قديم به أسماء الأسر الأكثر ضعفا، ثم (التجميع) من خلال شبكة صغيرة من المتطوعات يجمعن ما تيسر من طحين أو بقايا طعام، ثم (التحضير) من خلال طحن الذرة يدوياً في بيوت آمنة نسبيا ليلا، ثم (التوزيع).
وتشير نورا إلى أنها، وغيرها من المتطوعين الإنسانيين، يواجهون تحديات لا ترحم، أبرزها عدم توفر الأمان، وقلة الموارد المتمثلة في ندرة الطحين، والمعاناة بسبب الإرهاق الجسدي والنفسي.
عندما تسأل نورا عن أحلامها الآن، تبتسم ابتسامة حزينة: "حلمي أن أعود إلى فصلي، أن أرى تلاميذي يأكلون بشبع قبل أن يتعلموا، أن تكون كلمة حصار مجرد ذكرى في كتاب تاريخ يدرسه أطفالنا في مدرسة آمنة".
وتضيف نورا، وكأنها تقرا من الدفتر الملازم لها " إن الجوع لا يهزم مجتمعا إذا ظل متماسكا، حينما أسمع عن وفاة طفل بسبب سوء التغذية، أهرع إلى هذا الدفتر لتدوين المزيد من الأسماء، وكأني أعاهد نفسي ألا يسقط أحد آخر في صمت".
نورا وعربتها الخشبية في شوارع الفاشر المحاصرة، ليست مجرد صورة للمعاناة، بل هي أيقونة للتحدي، إنها تذكر العالم الذي يحتفي باليوم العالمي للعمل الإنساني، بأن الإنسانية لا تنكسر، وأن شريان الحياة الأقوى ليس في قوافل المساعدات المتعثرة، بل في قلوب تؤمن بأن حفنة إضافية من الذرة قد تكون الفارق بين الحياة والموت.
وقصة المتطوعة (نورا عبد الرحمن) ليست استثناءً، بل واحدة من آلاف الحكايات غير المسموعة لعمال الإغاثة، الذين يصنعون المعجزات يوميا بأيدٍ عارية، في وقتٍ أصبحت فيه المساعدات الإنسانية نفسها هدفاً للهجمات.
وبينما تشتد وطأة الحصار في مدينة الفاشر، تبرز فصول التضامن الإنساني، وتتحول معاناة أهلها إلى ملحمة يومية من البذل والعطاء.
وفي المدينة التي تقاوم الجوع، لم يعد الطعام مجرد وجبة، بل أصبح حلما صعب المنال، لكن أهالي الفاشر حولوا بيوتهم إلى (تكايا جماعية)، وتقول "أمينة" وهي أم لخمسة أطفال: "نقوم باعداد الطعام بصورة جماعية، من يملك حفنة دقيق، ومن يملك قليلا من الملح، ومن يجد حطبا للطهي، نجمع ما يتوفر لنا في فناء بيوتنا، صحيح الطعام قد يكون قليلا، لكن طعم المشاركة يملأ القلب".
في حي "الكرانك" بمدينة الفاشر، ترفع (زينب إسحاق) غطاء قدرها المتواضع كل ظهيرة، رائحة الطعام ليست وفيرة لأنه بلا لحم ولا بصل، لكنها كافية لجذب بضع أطفال من الجيران.
"الطحين قليل، والمكونات بسيطة للغاية،" تقول وهي توزع أطباقا صغيرة من العصيدة، "لكن كيف أغلق بابي وأنا أسمع بكاء طفل جاري؟ نقسم ما عندنا، فتصبح لقمة واحدة تشبع عشرات النفوس، الجوع يجمعنا، ولا يفرقنا"، في مطبخ زينب، تحولت حفنة دقيق إلى رمز للرحمة، وإثبات أن الإنسانية لا تُحاصر.
ومنذ مايو 2024، تخضع الفاشر، عاصمة شمال دارفور، لحصار من قبل قوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي تخوض حربا ضد الجيش السوداني منذ منتصف أبريل 2023.
وأعلن متطوعون ولجان شبابية مؤخرا توقف أغلب المطابخ المجتمعية التي تسمي (التكايا) عن العمل بسبب انعدام المواد الغذائية، والارتفاع الكبير في أسعار الحبوب، إذ بلغ سعر جوال (الدخن) وهو نوع من الحبوب زنة (مائة كيلو) نحو 11 مليون جنيه سوداني (نحو 3600 دولار أمريكي).
وكان رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس قد بعث أمس الإثنين، رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ومجلس الأمن الدولي، يطالب فيها بضرورة التحرك لفك حصار مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور.
وقال كامل إدريس، في الرسالة، إنه "يناشد مجلس الأمن والجمعية العامة بضرورة التحرك الفوري وفك حصار الفاشر وفتح الممرات الإنسانية، حيث لا يستطيع سكان المدينة الانتظار لمزيد من النقاشات الإجرائية أو القرارات المؤجلة".
وشدد على أن نجاة السكان تعتمد على التحرك الفوري.
وأشار كامل إدريس إلى أن مئات الآلاف في الفاشر محاصرون، حيث تتضور العائلات جوعا، فيما يموت الأطفال بسبب عرقلة مقصودة لوصول المساعدات.
وأضاف: "هذه ليست مجرد أزمة إنسانية، إنها اختبار أخلاقي للأمم المتحدة، فالقانون الدولي يحظر استخدام التجويع كسلاح في الحروب".
وذكر أن الحق في الغذاء والرعاية الطبية والحياة لا يعد امتيازا، وإنما حقوق إنسانية أساسية تنتهك في الفاشر مع مرور كل ساعة.
ووافق رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في 27 يونيو الماضي، على مقترح الأمين العام للأمم المتحدة لإعلان هدنة إنسانية في الفاشر لمدة أسبوع، فيما رفضت الدعم السريع المقترح.
ووفقا لتقارير صادرة عن الأمم المتحدة، فإن ما يقرب من 40% من الأطفال دون سن الخامسة في مدينة الفاشر يعانون من سوء تغذية حاد، ويعاني 11% منهم من سوء التغذية الحاد الوخيم.
وفي الرابع من أغسطس الجاري أعرب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن قلقه إزاء تصاعد الصراع في الفاشر، وتدهور الأوضاع الإنسانية.
وأشار مكتب أوتشا إلى أنه بعد مرور عام على تأكيد المجاعة في زمزم، وهو مخيم رئيسي للنازحين على مشارف الفاشر، لا تزال المدينة ترزح تحت الحصار، ويواجه سكانها المجاعة، مع انقطاع إمدادات الغذاء عبر الطرق البرية منذ أكثر من عام.
ويسيطر الجيش السوداني على الفاشر، وتقاتل بجانبه حركات دارفورية مسلحة كانت قد وقعت مع حكومة السودان في العام 2020 اتفاق "سلام جوبا"، من أبرزها حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم.
وتعد الفاشر مركز إقليم دارفور المكون من خمس ولايات وأكبر مدنه، والوحيدة بين عواصم ولايات الإقليم الأخرى التي لم تسقط بيد قوات الدعم السريع.
ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 حربا خلفت عشرات آلاف القتلى وملايين النازحين داخل وخارج البلاد.■
وكالة شينخوا