التل: انخفاض عجز الحساب الجاري يمنح الموازنة مساحة أكبر للاستثمار
عايش: المؤشرات تعكس توجهًا إيجابيًا إذا استمرت حتى نهاية العام
الأنباط – عمر الخطيب، مي الكردي
يعيش الاقتصاد الوطني مرحلة يمكن وصفها بـ اللحظة الفارقة، حيث بدأت مؤشرات مالية واقتصادية لافتة تعكس ملامح مسار جديد يتشكل، من أبرزها انخفاض العجز في الحساب الجاري إلى أدنى مستوى منذ 2019، ونمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.5%، واستقرار معدلات التضخم عند حدود 2%، إضافة إلى ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية إلى مستويات قياسية بلغت 22 مليار دولار.
هذه المؤشرات لا تقتصر على كونها أرقامًا مطمئنة، بل تشكّل دلالات أولية على تحول اقتصادي تسعى حكومة الدكتور جعفر حسان إلى ترسيخه عبر رؤية التحديث الاقتصادي، باعتبارها أداة مركزية لتجاوز سنوات من الأزمات والتحديات المتراكمة. وبينما تلوح في الأفق فرص واعدة في قطاعات التصدير والخدمات الرقمية والطاقة، تبقى معضلة بطء الإنجاز وضغوط الأزمات الإقليمية قائمة، ما يجعل الرهان الحقيقي على قدرة الحكومة في تحويل الاستقرار الكلي إلى نتائج معيشية ملموسة للمواطنين.
ماذا يعني تراجع عجز الحساب الجاري؟
ويرى الدكتور رعد التل، رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة الأردنية، أن المؤشرات الأخيرة تعكس تحسنًا ملموسًا في بيئة الاقتصاد الكلي، مشيرًا إلى أن انخفاض العجز في الحساب الجاري إلى 4.5% – وهو الأدنى منذ 2019 – يمثل تحسنًا في الميزان الخارجي، ويقلل الاعتماد على التمويل الخارجي، مما يعزز ثقة المستثمرين ويؤكد قدرة الاقتصاد على توليد موارده الذاتية.
وأضاف التل أن تراجع العجز يفتح المجال أمام توجيه الموارد نحو مشاريع استراتيجية بدلًا من تمويل العجز، موضحًا أن الموازنة باتت تملك مساحة أكبر للاستثمار في مشاريع البنية التحتية، مثل الطاقة المتجددة والمناطق الصناعية وشبكات النقل الحديثة، وهي مشاريع من شأنها تعزيز التنافسية وتحقيق أهداف رؤية التحديث الاقتصادي.
وشدد على أهمية الاستفادة من هذه المساحة المالية في الاستثمار بقطاعات التعليم والتكنولوجيا والابتكار، بما يسهم في خلق اقتصاد أكثر قدرة على توليد فرص عمل وتحقيق قيمة مضافة عالية. كما أشار إلى أن نمو الناتج المحلي بنسبة 2.5% خلال 2024 يشكّل إشارة إيجابية على النشاط الاقتصادي، بينما يوفّر استقرار التضخم عند 2% بيئة نقدية مستقرة تعزز قرارات الاستثمار وتقلل المخاطر.
الاحتياطيات الأجنبية
وأشار التل كذلك إلى أن ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية إلى 22 مليار دولار يعزز استقرار سوق الصرف، ويمنح البنك المركزي قدرة أكبر على مواجهة الصدمات الخارجية. ودعا في الوقت ذاته إلى مواصلة الإصلاحات الهيكلية في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات اللوجستية، إلى جانب تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليل البيروقراطية لجذب الاستثمارات، وتقديم حوافز ضريبية وتشريعية للقطاعات ذات القيمة المضافة.
واعتبر أن تنويع قاعدة الصادرات والانفتاح على أسواق جديدة يشكّلان ركيزة أساسية لاستقرار النمو، مشددًا على أهمية تعميق الشراكة بين القطاعين العام والخاص لتمويل مشاريع البنية التحتية الكبرى دون زيادة أعباء الدين العام.
التحديات باقية
من جانبه، أوضح الخبير الاقتصادي حسام عايش أن الأرقام الحالية، رغم أهميتها، يجب التعامل معها بحذر، فهي مؤشرات أولية قابلة للتغير على مدار العام. لكنه اعتبر أنها تعكس توجهًا إيجابيًا نسبيًا، إذا ما استمرت حتى نهاية العام، خاصة مع الانفتاح الاقتصادي وضبط العملية المالية الذي يمنح الحكومة فرصة لتكثيف دورها عبر السياسات والبرامج المرتبطة برؤية التحديث الاقتصادي.
وأشار عايش إلى أن أكبر التحديات تكمن في بطء الإنجاز، حيث لم يتحقق سوى ثلث الأولويات خلال ثلاث سنوات، بتأخر يقارب سنتين. هذا التعثر يضاعف العبء على الحكومة ويفرض عليها تنظيمًا أكثر صرامة في السياسات واللوائح لتقليل المعوقات أمام التقدم الاقتصادي.
ورأى عايش أن الحكومة استفادت من تعزيز الثقة عبر تواصلها المباشر مع المحافظات وحضورها الميداني، فضلًا عن علاقاتها الدولية الإيجابية خاصة مع الولايات المتحدة. لكن هذه المؤشرات لا تعني اختراقًا اقتصاديًا أو تحولًا نوعيًا سريعًا، خصوصًا مع استمرار الأزمات الإقليمية، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على غزة، التي انعكست على قطاعات مثل السياحة وأثرت على الأداء الاقتصادي بشكل عام، رغم بقاء بعض المؤشرات في وضع جيد.
الصادرات والطاقة الرقمية والكهرباء
وعلى صعيد القطاعات، أشار عايش إلى أن الصادرات الأردنية سجلت نموًا يقارب 9% في الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، في حين واصل قطاع الخدمات المالية والمدفوعات الرقمية نموه اللافت، مما يعكس تحولًا مهمًا في سلوك المستهلكين وتوجههم نحو الأدوات الرقمية.
أما قطاع الكهرباء، فعدّه عايش قصة نجاح استثنائية، إذ حافظ على استدامة خدماته وتطوره مقارنة بدول عربية أخرى تعاني من فجوة بين التوليد والاستهلاك. وبرغم أن كلفته بلغت نحو 8.5 مليار دينار، إلا أنه أثبت قدرة على تلبية الطلب حتى في أوقات الذروة ودرجات الحرارة المرتفعة، مما يجعله قاعدة أساسية للتحولات الرقمية والمدن الذكية مستقبلًا.
المواطن لا يشعر بالعائد المباشر
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، أكد عايش أن المواطن لم يلمس بعد انعكاساتها المباشرة على مستوى معيشته، موضحًا أن المكاسب الحالية تصب في صالح استقرار الاقتصاد الكلي أكثر من تحسين دخل الأفراد أو مستوى حياتهم.
ولتحقيق الأثر المطلوب، شدد على ضرورة مضاعفة معدلات النمو الحالية لتصبح قادرة على خلق وظائف جديدة وتحسين الإيرادات والمعيشة. وحتى يحين ذلك، يرى أن الحكومة مطالَبة باتخاذ إجراءات تخفيفية عاجلة، سواء عبر مراجعة العبء الضريبي وأسعار الفائدة، أو عبر برامج دعم مباشرة لتقليل كلفة الانتظار على المواطنين.
استقرار مستدام وتحولات اقتصادية أعمق
وختم عايش بالقول إن الأردن يسير في مسار إيجابي نسبيًا، لكن التحديات لا تزال قائمة. فالطريق إلى التحول الاقتصادي يحتاج إلى استقرار مستدام، وتسريع وتيرة الإنجاز، والتقليل من تأثير الأزمات الخارجية. وأكد أن نجاح الحكومة في الحفاظ على المؤشرات الحالية وتوسيع أثرها ليصل إلى حياة المواطن سيؤدي إلى ترسيخ الثقة، وجذب المزيد من الاستثمارات، ما يشكّل قاعدة صلبة للتحولات الاقتصادية القادمة.