فلسطين وغزّة تتنفس من رئة عمان

نبض البلد -
فلسطين وغزّة تتنفس من رئة عمان 
على هامش مهرجان عمان السينمائي الدولي " أول فيلم "

د. اسامة المجالي 

لأيام مكثفة وركض ما بين الصالات مضت ايامي مليئة بالزخم الفني والدرامي الذي عُرض في مهرجان عمّان السينمائي في الفترة الممتدة ما بين ٢-١٠ /٧ من هذا العام وقد تميز مهرجان هذا العام بتنظيم مختلف ومميز وتم عرض مجموعة كبيرة من الافلام وكذلك تنظيم ورشات متعددة ومتخصصة بالسينما والدراما بكل تفاصيلها .
ولن أفي المهرجان والمنظمين حقهم وعلى رأسهم الهيئة الملكية للأفلام التي نظمت ورعت هذا الحدث الاستثنائي بالتعاون مع مؤسسة مشهراوي للأفلام وصانعي الافلام في غزّة بمؤسسها المخرج والفنان الفلسطيني رشيد مشهراوي ،الذي تعنى مؤسسته بتطوير وتعزيز الإبداع من خلال سرد سينمائي يتجاوز الحدود للوصول إلى العالمية عن طريق تبني ودعم وتأهيل المهارات الشابة الواعدة بقطاع غزة . 
مجموعة الأفلام المقدمة هذه المرّة هي بالتعاون مع جمعية كو-اورجين برئاسة لاورا نيكلوف الفرنسية ، وللعلم فإن هذه المجموعة  الثانية من الافلام من سلسلة افلام " من المسافة صفر " 
From Ground Zero + 
وهذه المجموعة تضم افلام ٢٢ مخرجاً واعداً ، ونحن هنا سنتحدث فقط عن الافلام التي عرضت خلال مهرجان عمان السينمائي الدولي " اول فيلم " وهي ؛
أحلام صغيرة جداً     لإعتماد وشاح
حسن                          لمحمد الشريف
الأمنية                         لأوس البنا
ألوان تحت السماء    لريما محمود .

حضرت العرض الخاص بهذه الافلام بصالة العرض المفتوحة للهيئة الملكية للأفلام في حضور لافت ومميز ، حيث كانت كل الأمسية تتنفس غزة بقوةٍ في مساء عمان وسماءها اللازوردية  وقمرها المنير ، ما لبثت الشهقات ان تعالت من الحضور طوال عرض الافلام ، والافلام كلها افلام قصيرة ولكنها مكثّفة وعميقة ومعبّرة وحزينة ، قاهرة وقوية معاً ، الناس في الافلام ، الممثلون الهواة كبار ، في محاولاتهم لاقتراف الحياة وبراءتهم وعفويتهم وعذوبة الألم الذي يعيشونه كل لحظة خلال تواجدهم وعيشهم في قطاع غزّة المنكوب إحتلالياً وحصارياً وإنسانياً حيث تمّ اقتراف كل الموبقات بحق القطاع وأهله من قبل الاحتلال الفاشي العنصري .

الفيلم الأول " احلام صغيرة جداً " لإعتماد وشاح وهي مخرجة ومسؤولة وحدة التصوير والمونتاج في مركز شؤون المرأة بغزة ، حيث التقطت فكرة نقص بل وانعدام الفوط الصحية للنساء وكذلك حفاظات الأطفال ثمّ بنت عليها فكرة هائلة تشير إلى ما قام به الإحتلال من تحطيم وتكسير لكل ملامح الحياة الطبيعية للناس وخصوصاً النساء والأطفال الغزيين ومنها منع هذه السلعة البسيطة جداً والمهمة معاً ، التقاط هذه الفكرة وتفاعلاتها وتسليط الضوء عليها يسلّط بشكل أكبر على العنف الهائل الذي يمارسه الاحتلال على الفلسطينيين كافة في قطاع غزة ، إحتلال مجرم منعدم الإنسانية لا يفرق بطغيانه وعدوانه بين الذين يقاومون إحتلاله بالسلاح وبقية أفراد  الشعب الغزّي البرئ وعلى رأسهم الأطفال والنساء أبرز الضحايا وأكثرهم هشاشة في هذه الجولة الأخيرة من حلقات الصراع المحمّل بالصمود والتفاني والشجاعة من طرفنا ( الطرف الفلسطيني ) والجشع والجبن والخسّة والوحشية من الجانب الإسرائيلي الصهيوني .
 
ثم أتى الفيلم الآخر " حسن" للمخرج محمد الشريف ، والفيلم يحكي قصة طفل تقطّعت به السبل ( كالآلاف ) بسبب الحرب وأنقطع عن عائلته عندما أجبر على الهجرة من شمال قطاع غزة الى جنوبه ، وأثناء هذه الهجرة حدثت معه الأهوال ، فضلاً عن إنقطاع إتصاله بعائلته التي بقيت في شمال القطاع مع ما حدث هناك من أهوال وقصف ودمار وقتل ، أودى بالنهاية إلى موت أبيه وأخيه ، حيث بقيت أمه وأخواته وحيدات بلا معين بشكل مرعب وسط تلك الحرب المرعبة والجنونية ، يطوف بنا محمد الشريف بصحبة حسن أرجاء الجنوب الغزيّ مثبتاً أنّ الحياة والأمل ستتغلب على العنف والاحتلال  فلا مستحيل في غزة ، والفيلم يوثّق من المسافة صفر معاناة كل غزّي وغزيّة دون أدنى وجل أو تواني ، وهو يصرخ في  " كل لحظة " : وبعدين ياااااا عاااالم ، يا منافق ، يا مجرم !!! كيف تترك كل هذا الإجرام يحدث أمامك بالصوت والصورة وعلى الهواء مباشرة ولا توقفهُ ، بنهاية الفيلم يعود " حسن "  للشمال ما أن تتوقف القذائف عن الانهمار والتدمير والقتل ، يمشي هو مع الآلاف الفلسطينيين في إصرار  أسطوري للعودة إلى وطنهم وعدم الهروب منه أبداً .

أما فيلم " الأمنية " ثالث الافلام لأوس البنا فهو الأكثر روعة وحزناً - بالنسبة لي - حيث يمضي الفيلم مصوّراً مخرجاً مسرحيّاً يحاول علاج مجموعة من الفتيات الصغيرات ( ١٠-١٢ ) عاماً عن طريق  التمثيل والعمل الدرامي وترك المجال لهن لمحاولة التعبير عن الذات واعماقها ومعاناتها والبوح بدواخلهنّ ، فالفتيات كلّهن قد تعرضن ّلمصائب الحرب من قتلٍ لآبائهنّ واخوانهنّ وأمهاتهنّ ثمّ تهجّرن ونزحن عن بيوتهنّ وحياتهنّ العادية وغرفهنّ البهيجة والعابهنّ ، فهذه الحرب لا ترحم أحداً ، حرب قصد منها ( الصهاينة ) عقاباً جماعياً لكل الفلسطينيين لأنهم فلسطينيون أولاً ولأنهم يعيشون ويحيَون ويحلمون بشكل طبيعي كسائر البشر وهذا ما يتعارض مع السردية الصهيونية التي تنزع الانسانية عن الفلسطيني وتُحَيونهُ بينما الفلسطيني كامل الاوصاف إنسانياً وروحياً يألمُ ويفرح ويحب ويكره ويغضب ومتجذر في أرضه ، كل الفتيات إذن متجذرات في أرضهنّ عصيّات على الإقتلاع والتهجير القسري والطوعي !!! سواءً بسواء ، ينجح أنس البنا الممثل المسرحي والمعالج النفسي في إيصال رسالته القائمة على أن الصداقة الحقيقية هي أن تجد بجانبك شخصاً يدعمك ويشاركك الحلم ويقاسمك الضحكة في أقسى الظروف والأزمان .

آخر الأفلام هو فيلم " ألوان تحت السماء " لريما محمود وهي كاتبة ومخرجة فلسطينية لها فيلم سيلفي سابق وهو ايضاً يلقي الضوء على معاناة آلاف الفلسطينيات النازحات في مخيمات اللجوء ، المعاناة التي تنزع الخصوصية عن المرأة والفتاة الفلسطينية وتنزعها من محيطها وأمانها وعائلتها ، أحلامها وطموحها وأهلها واحباءها الذين تفقدهم بهذه الحرب واحداً واحداً ، تفقد بذلك ظهرها وحمايتها الاجتماعية بشكل تعسفي مقصود من الإحتلال والصهاينة الذين يتعمدون معاقبة الفلسطينيين ككل وبقسوة غير مبررة ومتوحشة ، كان الحصار والإحتلال هو البدء ثم كانت المقاومة هي رد الفعل الطبيعي الإنساني لكسر هذا القيد ، ثم ظهر العنف الشديد من الإحتلال  ضد المقاومين والشعب ، الذي يبدو انه - أي الإحتلال - تفاجئ من رد فعل هؤلاء الناس الأحرار بطبيعتهم فردّ بهيستيريا مروّعة أراد بها تدمير كل أشكال الحياة التي تحيطُ بالغزيّين نساءً ورجالاً أطفالاً وشيوخاً ، وكلما ازداد الفلسطينيون رغبةً بالحياة كلما توحش العدو وتوحش هو وكل داعميه ، هكذا يمضي فيلم " الوان تحت السماء " بعرض حيوات صبايا يحاولن رغم الموت والمعاناة والدمار الاستمرار بالغناء والرسم وعزف الموسيقى وهو يجسّد كما أشارت الأميرة ريم علي في إفتتاح المهرجان " إصرارٌ على تقديم غير المتوقع وإظهار التجربة الإنسانية والفلسطينية خصوصاً في عالمٍ متقلّب وسريع التغيّر والتوحّش. "