بيرز مورغن وخطر الرؤية حين تتضح!

نبض البلد -
فارس قاقيش

طوال عقود، كان بيرز مورغن ابنَ مدارس الإعلام الكبرى في بريطانيا وأمريكا.
من ذا صن إلى الديلي ميرور، ثم إلى شاشات سي إن إن وصباح الخير بريطانيا،
أتقن لعبة العناوين الصاخبة، وأحسن فنّ المواجهة والجدل،
وصنع لنفسه مكاناً في عالمٍ يرى الحقيقة من خلال نسب المشاهدة.

وفي أمريكا، بدا صوتاً مختلفاً: له نبرة محافظة تدافع عن "القيم" و"النظام"،
لكنه كان شوكة في حلق ثقافة السلاح،
لا يتعب من انتقاد "التعديل الثاني في الدستور الأمريكي" ولوبي الرصاص الذي يحميه.
سنوات طويلة قضاها داخل مؤسساتٍ اعلامية تعرف كيف تصنع الخبر قبل أن تبحث عن الحقيقة.
وحين تعيش في قلب هذه المصانع،
تكتشف أن المسافة بين الصحافة والتمثيل
أدق من سمك شعرة.

ومع الزمن، بدأ شيء فيه يتغيّر. كان يحبّ الاستعراض، وفجأة
صار يقترب من الصحافة القديمة،
التي تجرؤ أن تدفع ثمن السؤال الصعب.

وجاءت حرب غزّة لتكشف هذا التحوّل.
بين صور الركام ودموع الأطفال، لم يعد قادراً على قراءة النصّ الغربي الجاهز:
النصّ الذي يكرّر أن إسرائيل هي الضحية الدائمة، ويُخفي الاحتلال تحت كلمة "دفاع عن النفس".

صار صوته مختلفاً.
صار يتساءل:
كيف يكون الدفاع عن النفس بقصف شعبٍ محاصر؟
صار يفتح شاشته لأصواتٍ اعتادت الشاشات تجاهلها،
ويترك للحقائق أن تهدم الرواية بنفسها.

لا، لم يتحوّل مورغن إلى قدّيس. لكن في داخله نما صحفيّ رأى ما يكفي مت التشوهات
ليعرف أن التمثيل لم يعد ينفع.

هذا الطريق القويم ليس سهلاً في الغرب، لأن أسهل ما يكون أن تساوي بين الضحية والجلاد، وأن تسمّي الحصار "صراعاً للبقاء"،
أما أن تقول: هذا ظالم وذاك مظلوم، فهو طريق مليء بالمخاطر.

ومورغن اختار هذا الطريق. وذكّر زملاءه بأن الصحافة
ليست لعبة راحة ولا أرقام مشاهدة.

فالحقيقة في غزّة ليست معقّدة. هي واضحة كالشمس،
موثّقة كالجرح،
دامية كالسكين.
المعقّد هو أن تجرؤ على قولها.

يبدو أن مورغن، وقد خبر دهاليز الإعلام،
ووصل إلى لحظة لم يعد عندها الصمت ممكناً.
ويا للمفارقة:
رجلٌ اتُّهم طيلة حياته بأنه يعشق صوته،
أهمّ ما فعله أخيراً
أنه ترك الحقائق تتكلّم،
ولو أحرجت "الأسياد".

ولعلّ ما يستحق الذكر أنّ هذا التحوّل لم يكن وليد غرفة أخبار مغلقة وحدها. ففي كثير من حلقاته عن غزّة، كان ملايين الناس ...عبر الاتصالات والبث المباشر ورسائل الجمهور... يواجهونه بالحقيقة، يكسرون الجدار الزجاجي بين المذيع والجمهور، ويدفعونه لأن يرى بعين الشارع لا بعين الاستوديو.
ولأول مرّة، بدا أن المقدم نفسه يعيش تجربة الناس؛ يسمع وجعهم بلا فلتر، ويرى غضبهم بلا وسيط، وكأنّ الشاشة لم تعد عازلاً بل جسراً لعبور الحقائق وطرح الأكاذيب.
هذا الاحتكاك بالناس، بهذا الصدق الخام، ساعده على أن يتخفّف من أعباء الدور التلفزيوني، ويقترب خطوة من الحياة الحقيقية.

وللإنصاف، لا نزعم هنا أن كل هذا التحوّل موثّق بالأرقام الدقيقة أو أن كل نموّ في شعبيته سببه موقفه من غزّة وحدها.
إنه تحليل يقرأ المشهد كما ظهر للناس: جمهورٌ ينداح عددا على المنصات الرقمية، وصوتٌ بدأ يختلف في نبرته وأسئلته.
ما نرصده هو أثر تراكمي؛ مزيجٌ من تجربة إعلامية طويلة وصوت شارعٍ صار يدخل إلى الاستوديو بلا استئذان.

وربما يسأل البعض:
هل زادت شعبيته بعد هذا التحوّل؟

الجواب معقّد مثل الطريق الذي اختاره.
فعلى الشاشات التقليدية، خسر مورغن كثيراً من جمهوره؛ إذ شهد برنامجه على قناة "TalkTV" في بريطانيا هبوطاً حاداً بعد الأسابيع الأولى، لأن التلفزيون يطلب الراحة أكثر من الصراحة. لكن حين انتقل إلى المنصات الرقمية، وبالأخص "يوتيوب"، تبدّل المشهد: فهناك، وجد جمهوراً جديداً بالملايين، يبحث عن صوتٍ لا يجمّل الحقيقة.
وبفضل هذا النهج الصريح، تضاعفت مشاهداته الرقمية، حتى تجاوز عدد متابعيه أربعة ملايين، ومقاطع حلقاته تخطّت حاجز المليار مشاهدة.

وهكذا، فإن الصدق لم يجلب له الأمان الوظيفي، لكنه فتح له باباً آخر: باب جمهورٍ لا يطلب منه سوى أن يقول ما يرى ويسمع.

قلّما نرى إعلامياً يكبر أمام عيوننا.
وأندر من ذلك،
أن يخاطر بمكانته من أجل ما هو حق.

لكن مورغن فعلها.
وموقفه يذكّرنا بحقيقة لا تبلى:
أن الحق يبقى،
وأن الباطل - مهما علا صوته - قصير العمر.