الذكاء الاصطناعي والعمل التطوعي والمجتمعي

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
في زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وتغير ملامح حياتنا بشكل غير مسبوق، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة ثورية يمكنها أن تغيّر مفهوم العمل التطوعي والمجتمعي. كثيرون يرون الذكاء الاصطناعي وسيلة تكنولوجية بحتة تهدف إلى تحسين الكفاءة أو تحقيق الأرباح، لكن ما يغيب عن الأذهان أن هذه التقنية يمكن أن تكون الجسر الذي يربط الخير بالعلم، ويحوّل الطاقة الإنسانية الإيجابية إلى أثر ملموس يغير حياة الناس للأفضل، خاصة في المجتمعات الأكثر حاجة.
إن العمل التطوعي في الأردن، كما في كثير من الدول، يواجه تحديات تتعلق بالتنسيق والمواءمة بين جهود المتطوعين واحتياجات المجتمع الفعلية. هناك مبادرات كثيرة لكنها غالباً ما تعمل بشكل متفرق، ما يؤدي أحياناً إلى ازدواجية الجهود في بعض المناطق، أو ضعف الحضور في مناطق أخرى أكثر احتياجاً. هنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه أن يبني منصات ذكية تربط بين المتطوعين والمبادرات الاجتماعية بشكل فوري وفعّال. تخيل منصة إلكترونية ذكية، تتعرف على مهارات كل متطوع واهتماماته، وتقارنها باحتياجات مختلف المبادرات، لتقوم بتوجيهه فوراً إلى النشاط الذي يحتاجه المجتمع أكثر. هذه المنصات يمكنها كذلك أن تدير قاعدة بيانات دقيقة للأحياء الفقيرة والمجتمعات البدوية والمناطق الأقل حظاً، فتضمن توزيع الموارد والجهود بشكل عادل ومنصف.
الذكاء الاصطناعي لا يكتفي بالربط بين الأطراف، بل يمكنه تحليل كميات ضخمة من البيانات لتقديم صورة شاملة عن احتياجات المجتمعات. على سبيل المثال، يمكن للأنظمة الذكية تحليل بيانات من المدارس والمراكز الصحية والجمعيات الخيرية والبلديات لتحديد المناطق التي تعاني من نقص في الخدمات الأساسية أو ارتفاع في نسب البطالة أو الفقر. هذا التحليل الدقيق يمكّن المبادرات التطوعية من العمل على أسس علمية، حيث يتم توجيه الدعم إلى المجتمعات التي تحتاجه بالفعل، بدلاً من العمل العشوائي الذي يهدر الوقت والموارد.
المجتمعات الفقيره في جميع المناطق والمحافظات وخاصة القروية في المناطق النائية او الغير مخدومة او المجتمعات البدوية في المناطق البعيدة في الأردن مثال واضح على الأماكن التي يمكن أن يستفيد فيها العمل التطوعي من الذكاء الاصطناعي. هذه المجتمعات غالباً ما تكون متنقلة أو بعيدة عن مراكز المدن، ما يجعل الوصول إليها وتقييم احتياجاتها مهمة صعبة. الأنظمة الذكية قادرة على جمع وتحليل بيانات حول تحركات هذه المجتمعات واحتياجاتها الأساسية مثل التعليم، المياه، الصحة وفرص العمل وغيرها. ومن ثم يمكن توجيه فرق المتطوعين بشكل أكثر فاعلية لتقديم الدعم اللازم، سواء كان ذلك عبر قوافل طبية متنقلة، أو حملات توعية، أو مشاريع صغيرة تعزز الاستقلالية الاقتصادية للأسر.
كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح آفاقاً جديدة في مجال التنبؤ بالأزمات قبل وقوعها. فمن خلال تحليل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تستطيع الأنظمة الذكية التنبؤ بحدوث كوارث محتملة مثل الفيضانات أو موجات البرد القاسية أو نقص الغذاء في مناطق معينة. هذا التنبؤ المبكر يسمح للمؤسسات التطوعية والمجتمعية بالتحرك بسرعة، وتوجيه الجهود لتقليل الأضرار وحماية الفئات الأكثر هشاشة.
جانب آخر لا يقل أهمية هو قدرة الذكاء الاصطناعي على تقييم أثر المبادرات التطوعية بدقة. غالباً ما تكون هناك صعوبة في قياس حجم الفائدة الحقيقية التي تحققها هذه المبادرات. لكن المنصات الذكية تستطيع تتبع كل نشاط تطوعي وتحليل نتائجه بالأرقام والصور والخرائط. هذا النوع من التقييم يمكن أن يعزز ثقة المجتمع بالعمل التطوعي ويشجع المزيد من الأفراد والشركات على المشاركة والدعم.
ومن أجل تحقيق كل ذلك، لا بد من الاستثمار في بناء منصات وطنية تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل احترافي لدعم العمل التطوعي والمجتمعي. هذه المنصات يجب أن تكون سهلة الاستخدام، وأن توفر مساحة لتبادل المعلومات بين المتطوعين والمبادرات، وأن تتيح للأفراد اختيار الأنشطة التي تتوافق مع اهتماماتهم ووقتهم المتاح. كما يمكن إدماج خاصية التحفيز عبر تقديم شارات وجوائز رقمية تعكس مستوى المشاركة، مما يزيد من حماس المتطوعين.
إن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن القلوب النابضة بالحب والعطاء التي تشكل أساس العمل التطوعي، لكنه يمكن أن يكون البوصلة التي توجه هذه القلوب إلى حيث الأثر الأكبر. في الأحياء الفقيرة والمجتمعات البدوية والمناطق المهمشة، قد يكون هذا التوجيه هو الفارق بين مبادرة عابرة وأخرى تغير حياة الناس إلى الأفضل بشكل مستدام.
اليوم، أمام المؤسسات الخيرية والجمعيات المحلية والبلديات وحتى الجامعات والشركات والمؤسسات فرصة ذهبية لتبني هذا التحول. إن دمج الذكاء الاصطناعي في العمل التطوعي ليس رفاهية، بل هو استثمار في مستقبل أقوى وأكثر عدلاً. كل دقيقة وكل جهد تطوعي يمكن أن يصبح أكثر قيمة إذا تم توجيهه بشكل صحيح، وكل مبادرة يمكن أن تتضاعف نتائجها إذا تم التخطيط لها بناءً على بيانات دقيقة وتحليل عميق.
الذكاء الاصطناعي والعمل التطوعي والمجتمعي ليسا عالمين متوازيين، بل هما حليفان طبيعيان. حين يجتمع العلم مع الإرادة الإنسانية، تصبح المجتمعات أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وأكثر استعداداً لصناعة مستقبل أفضل للجميع. وفي الأردن، يمكن أن يكون هذا الدمج نقطة انطلاق نحو نهضة مجتمعية حقيقية تعكس أجمل ما في الإنسان من عطاء، مدعوم بأذكى ما أنتجته التكنولوجيا من أدوات.