نبض البلد -
حاتم النعيمات
تمر دولة الاحتلال الإسرائيلي اليوم بتقلبات مهمة، حيث تتكاثر الأزمات العميقة بشكل غير المسبوق؛ أزمات تضرب علاقة المستوطنين وسكان "إسرائيل" بدولتهم؛ فحكومة نتنياهو التي دخلت التاريخ كأطول الحكومات عمرًا منذ احتلال فلسطين أصبحت سببًا في كشف عيوب ومشاكل المجتمع السياسي الإسرائيلي التي كانت تختبئ تحت عنوان "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط".
نتنياهو حول حرب غزة كبداية إلى أداة لخدمة مصالحه، وللأسف فقد وجد من يمده بالأكسجين السياسي. ولو قرأنا ظروف الحكومة قبل الحرب وبعدها لأدركنا أن الحرب مثلت طوق النجاة لحكومته. إذن
"إسرائيل" اليوم تواجه عواقب سلوك نتنياهو وليس أي شيء آخر.
إخفاق نتنياهو في إدامة تماسك ائتلافه بعد انسحاب الأحزاب الحريدية احتجاجًا على ملف تجنيد "طلاب التوراة” كشف أن الرجل قد بنى مجده السياسي على أرضية من النكاية والتناقص لا التوافق. فالإعفاء من الخدمة العسكرية لطائفة كاملة بوجود جبهات مفتوحة وقتال لم يعد مقبولًا حتى في الشارع اليميني ذاته، ومع ذلك استطاع أن يستغل هذا الملف في شراء الوقت بإسكات التيارات الليبرالية العلمانية تارة، وبالمناورة مع المتشددين تارة أخرى. أما لعبة النكاية الأخرى، فقد تمثلت في سعيه لتغيير بنية القضاء -الذي يلاحقه-من أجل أن ينجو بنفسه بغض النظر عن ما سيتركه من عبث في واحد من أهم أعمدة نظام الحكم. وكل ذلك يجري في بيئة حرب يتم تمديدها حسب رغبته.
الجديد أن "إسرائيل" باتت ولأول مرة منذ عقود تواجه اختبارًا داخليًا مهمًا، إذ تراجعت ثقة الإسرائيليين بمؤسساتهم، وتعمّق الإنقسام بين المتدينين والعلمانيين، لذلك فإن المراجعات الشاملة باتت محتملة تمامًا كما كان يحدث بعد كل حرب أو أزمة خلال العقود الفائتة، ولأن "إسرائيل" ما زالت في أطول حالة حرب منذ السابع من أكتوبر عام 2023، فإن هذه المراجعات قد تكون جذرية ولها تبعات غير متوقعة كالتوجه نحو السلام مع الفلسطينين ومنحهم دولة (بغض النظر عن شكلها)، وإبرام معاهدات سلام مع سوريا ولبنان والسعودية، لأن المجتمع الإسرائيلي قائم على استقطاب المهاجرين بالمغريات الاقتصادية والأمنية، لذلك فهو لا يحتمل استمرار حالة الطوارئ دون مبرر.
قد يقول البعض إن هذه المراجعات ليست حتمية، وهذا صحيح خصوصًا عند الحديث عن مجتمع مشحون بالخوف والتشدد والانتقامية لا يمكن التنبؤ بسلوك قادته، لكن ومع ذلك فإن لهذه المراجعات موجبات قوية أهمها أنها ستكون في لحظة خلو محيط "إسرائيل" من "عدو تقليدي نشط" كحماس وحزب الله وبقية أذرع إيران، مما سيُصَعّب تسويق حالة الخطر التي يتغذى عليها الخطاب اليميني، وهذا بدوره سيفسح المجال للتيارات المعتدلة والعاقلة لتتصدر المشهد هناك.
الدافع الآخر لهذه المراجعات هو أن العقل الناقد في المجتمع السياسي والعلمي والقانوني سيهتم كثيرًا بالضرر الحاصل في العلاقة مع الولايات المتحدة، والتي شهدت تجاذبات قوية كان آخرها غضب إدارة ترامب من نتنياهو على أثر قصف الأخير للعاصمة السورية دمشق، ولا ننسى في ذات السياق كيف تعاملت واشنطن مع ملفات إيران واليمن بشكل شبه مستقل عن "إسرائيل" قبل أشهر في إشارة إلى وضع ملف تل أبيب على طاولة الاستراتيجيا الأمريكية، وفوق هذا كله، فقد استطاعت الأردن ومصر ودول الخليج تشكيل قوة ضغط (ديبلوماسية-اقتصادية) بدأت تأخذ وضعها في القرار الأمريكي.
المطلوب هو أن تتهيأ المنظومة العربية "لإسرائيل ما بعد المراجعات" كما تستعد لإسرائيل المتضخمة الآن، وذلك عبر رفع مستوى التنسيق بين الدول العربية وتعزيز القدرة على الضغط داخل مصنع القرار الأمريكي، وفي هذا السياق لا بد من التأكيد مرارًا وتكرارًا على أن الأردن هو أكثر المتأثرين بمآلات الوضع الجديد، لذلك فإن عليه عبء مضاعف أكثر من غيره.