حين يتكلّم المستقبل: كيف يُعيد الذكاء الاصطناعي صياغة حياة البشر؟

نبض البلد -
حسام الحوراني خبير الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي
حين يتكلّم المستقبل، لا ينطق بلغة الغيب، بل بلغة الخوارزميات. لا يتكئ على نبوءات الغابرين، بل يكتب قصته بأنامل الذكاء الاصطناعي، هذا الكائن الجديد الذي لم يُولد من رحم الطبيعة، بل من ومضات العقول وأشباه الموصلات. إنه ليس مجرّد اختراع، بل شريك جديد في الوجود، يعيد رسم ملامح الحياة البشرية بهدوء وثقة، من دون ضجيج... لكن بتأثير عميق لا يُمكن تجاهله.
لم يعد الذكاء الاصطناعي رفاهية أو فكرة خيالية تُسجن في روايات الخيال العلمي. إنه اليوم بيننا، يشاركنا القرارات، يقرأ مشاعرنا، يتوقّع رغباتنا، ويوجه المدن والشركات والمصانع والأطباء وحتى الكُتّاب. في زمنٍ يُقاس فيه التقدم بقدرتنا على الأتمتة والفهم والتنبؤ، أصبح الذكاء الاصطناعي هو اللسان الذي يتكلم به الغد، والعين التي ترى ما وراء الحاضر، واليد التي تمتد لتغيّر كل شيء.
من داخل غرف العمليات، إلى برمجيات التشخيص، إلى نظم إدارة المرور، إلى خوارزميات تحليل النصوص والمشاعر، إلى الروبوتات التي تدرس، وتُدرّس، وتداوي، وتخدم، وتبتكر... الذكاء الاصطناعي لم يعد يقترب من حياتنا، بل أصبح في عمقها. لقد أعاد تعريف مفهوم "العمل" و"الخبرة" و"الإبداع"، وجعل من المستحيل ممكنًا، ومن المستبعد واقعًا، ومن الخيال مشروعًا واقعيًا بانتظار التنفيذ.
لكن ما هو أبعد من التطبيقات التقنية هو التغيير الجذري في نظرتنا لذواتنا. فحين تُبدع الآلة نصًا أو تُلحّن موسيقى أو تُقدّم تحليلًا اقتصاديًا أعقد من قدرة الإنسان، تُطرح الأسئلة الكبرى: من نحن؟ وما هو دورنا في هذا العالم؟ هل الإبداع حكرٌ علينا؟ وهل التفكير العميق ميزة بيولوجية أم قدرة قابلة للتقليد؟ في هذا السياق، لا يأتي الذكاء الاصطناعي ليحلّ محل الإنسان، بل ليضعه أمام مرآة الحقيقة: أنك إن لم تتطوّر، فستُستبدل. وإن لم تُبدع، فستُنسى. وإن لم تمتلك الجرأة لتتعلّم، فلن يكون لك مكان في المستقبل.
وهنا، يكمن جوهر القضية بالنسبة لنا، نحن أبناء العالم العربي. لسنا متأخرين بالضرورة، لكننا أحيانًا مترددون. نملك العقول، والجامعات، والمواهب، لكننا بحاجة إلى بيئة تحرر الذكاء، وتستثمر في الأفكار، وتحتضن المبدعين. الشباب العربي يقف على أعتاب حقبة لم يشهد مثلها التاريخ: أدواتها في متناول اليد، من الذكاء الاصطناعي إلى حوسبة الكم، ومن الإنترنت إلى التعليم المفتوح، لكن السؤال: هل نملك الشجاعة لنحلم ونعمل؟ هل نملك الطموح لنُعلّم الذكاء الاصطناعي بلغتنا، برؤيتنا، بقيمنا؟
حين يتكلّم المستقبل، لن يُسأل عن جنسيتك، بل عن كفاءتك. لن يهتم بلون جواز سفرك، بل بمدى ابتكارك. الذكاء الاصطناعي لا يتحامل على الأمم، لكنه يفتح أبوابه لمن يملك الإرادة والعلم، ويمنح التقدم لمن يجرؤ على المحاولة والخطأ والتعلّم. فليكن لنا نصيب في هذا التحوّل، لا كمستهلكين، بل كمبدعين. لا كمتفرّجين، بل كمشاركين في صياغة الغد.
ولذلك، فإننا مدعوون الآن – لا غدًا – إلى أن نُعيد تشكيل مناهجنا التعليمية، أن نُدخل البرمجة والبيانات والذكاء الاصطناعي من الصفوف الأولى، أن نبني منظومة تشجّع التجريب وتكافئ الفشل المحاول، لا النجاح التقليدي. يجب أن ننشئ حاضنات ذكاء اصطناعي في الجامعات، أن نربط البحث العلمي بالصناعة، وأن نخلق قصص نجاح تنطلق من القرى والبلدات الصغيرة، كما انطلقت ذات يوم قصة جابر بن حيّان والخوارزمي وابن الهيثم.
حين يتكلم المستقبل، يجب ألا نكون صامتين. يجب أن نردّ عليه بلغته، بالعلم، بالبرمجة، بالفكر، وبالحلم الكبير. ليس المطلوب أن نُصبح دولًا خارقة خلال سنوات، بل أن نبدأ، وأن نستمر، وأن نؤمن بأن لنا مكانًا على طاولة الحضارة. الذكاء الاصطناعي ليس خطرًا، بل فرصة. حوسبة الكم ليست تعقيدًا، بل أداة خارقة لإعادة هندسة العالم.
ولذلك: إن لم نمتطِ صهوة المستقبل الآن، فمتى؟ العالم لا ينتظر أحدًا، لكن الأمل لا يموت أبدًا. وما زال في شبابنا العربي ذلك النور القادر على إضاءة طريق العالم.