مجتمعات تصنع اقتصادها: التعاونيات والديمقراطية الاجتماعية يدًا بيد

نبض البلد -
بمناسبة اليوم الدولي للتعاونيات
مجتمعات تصنع اقتصادها: التعاونيات والديمقراطية الاجتماعية يدًا بيد
مقال المحاضر والمدرب بالتمكين السياسي والتنمية والمشاركة المجتمعية: -أ. فارس متروك شديفات. 
في عالمٍ يزداد اضطرابًا، وتضيق فيه فرص العدالة والمساواة، يطلّ علينا اليوم الدولي للتعاونيات في الخامس من تموز/يوليو، كنبضٍ جديد في قلب الاقتصاد العالمي، تحت شعار (التعاونيات وسعيٌها نحو حلول جامعة ومستدامة لبناء عالم أفضل).
إنه يومٌ لا يُشبه غيره، لأن صوته هذا العام يأتي أقوى، وأصداؤه أوسع، ضمن سياق استثنائي أعلنت فيه الأمم المتحدة عام 2025 سنة دولية للتعاونيات — مناسبة قلّما تتكرّر، لكنها تحمل الكثير من الأمل للدور الجوهري الذي تنهض به التعاونيات في تشـييد مجتمعات أكثر عدلًا وثباتًا أمام التحديات المتصاعدة. 
من الجدير بالذكر أن الحراك التعاوني ليس وليد اليوم، فقد ظهرت أولى التعاونيات في أسكوتلندا عام 1761، ثم أخذت تتطوّر مع تأسيس أول مؤسسة تعاونية حديثة عام 1844؛ ومنذ ذلك الحين، تحوّلت الحركة التعاونية إلى تيار عالمي فاعل، يعكس بشكل متزايد الحاجة إلى اقتصاد إنساني، تشاركي، ومتجدد.
ولعل من المناسب أن اشير الى ان أُشكال التنظيم التعاوني المنظم قد بدأت في إمارة شرق الأردن خلال بداية عشرينيات القرن الماضي، وشهدت تأسيس أولى التعاونيات التطوعية من قبل قطاعات شعبية وأهلية، بالإضافة إلى ذلك، صدر في عام 1933 قانونًا ينظم تأسيس التعاونيات، وأُنشئت جمعيات لتوفير المواد الغذائية والاحتياجات الأولية للمواطنين تحت الإشراف الرسمي.
جاءت نقطة التحول الحقيقية للحركة التعاونية في الأردن بأوائل الخمسينيات، عندما صدر قانون التعاون الأول (39 لسنة 1952) وأُسست دائرة الإنشاء التعاوني (1952–1962)، ويضاهي الحراك التعاوني الأردني تجربته العالمية بدءًا من تشريعه، إلى البناء المؤسسي، مرورًا بإدماجه ضمن خطط التنمية الشاملة. 
بلا شك، ان اليوم الدولي للتعاونيات لم يعد هذا اليوم مجرد ذكرى عابرة في رزنامة الأمم، بل محطة عالمية تحتفي بالنموذج الذي يُعيد للناس دورهم في صياغة حاضرهم وبناء مستقبلهم؛ فالتعاونيات لا تقدّم فقط حلولًا اقتصادية، بل تفتح الأبواب نحو عالمٍ أكثر عدلًا، تُصان فيه الكرامة، وتُوزَّع فيه الفرص، وتعلو فيه قيم التشاركية والمساواة التي تشكّل جوهر الديمقراطية الاجتماعية.
في الواقع، ومع تفاقم الاضطراب العالمي وتزايد الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، يُعبّر شعار هذا العام عن توق الإنسانية العميق إلى بدائل تتجاوز منطق الربح المجرد، وتسعى نحو نماذج أكثر توازنًا بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
 وعلى العكس من المنظومات الاقتصادية التقليدية، تُقدّم التعاونيات نموذجًا مثيرًا للتفكير، يضع الإنسان لا المال في جوهر معادلته، ويُعلي من شأن البيئة، والمصلحة العامة، والكرامة البشرية.
على الرغم من ذلك، تبقى روح التعاون المتصل بالمشاركة الاقتصادية المنصفة أساسًا في تكوين الثروة والقضاء على الفقر. إذ إن التعاونيات لا تسعى إلى تكديس رأس المال بقدر ما تعمل على توزيعه بشكل أكثر عدلاً. وبدوره، يؤدي هذا النهج إلى تعزيز المساواة الاجتماعية ودعم التنمية المستدامة في المجالات البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي عالمٍ بات فيه التفاوت أكثر حدّة، نجد أن العضوية المفتوحة للتعاونيات تتيح فرصًا عادلة لتكوين الثروة، والمشاركة النشطة، وصنع القرار الجماعي، وهو ما يعزز من تماسك المجتمعات ويُرسّخ العدالة التوزيعية باعتبارها أحد مبادئ الديمقراطية الاجتماعية الجوهرية.
ونشير إلى ان التعاونيات، تُعدّ مؤسسات قوية ومتجذّرة، يشكّل أعضاؤها نواتها وعمادها، ويشتركون ديمقراطيًا في إدارتها واتخاذ قراراتها، مما يعكس القيم الأساسية للديمقراطية الاجتماعية من مساواة، مشاركة، عدالة، ومسؤولية جماعية؛ فمن تعاونيات الصحة والسكن، إلى الزراعة والتمويل والطاقة النظيفة، تُثبت هذه المؤسسات أنها قادرة على ابتكار حلول فعّالة وعادلة، تستند إلى المشاركة والمساءلة، وتُبنى على أسس الاستدامة طويلة الأجل.
يمكن القول إن التعاونيات تمثّل أحد النماذج التطبيقية الأكثر تناغمًا مع مبادئ الديمقراطية الاجتماعية، حيث يتم توزيع القوة الاقتصادية بآليات ديمقراطية، ويُعاد تعريف العلاقة بين الفرد والمجتمع ضمن إطار من التعاون والتكامل؛ وعلى الرغم من تركيزها على المجتمع المحلي، إلا أن التعاونيات تتطلع إلى أن تعمّ منافع نموذجها العادل جميع الناس في العالم.
ومن المهم التنويه الى أن الغاية والمهام المنشودة من إحياء هذه المناسبة، عند كل المعنيين بكرامة الانسان وبتحسين جودة حياة الناس، ان تتركز اولوياتهم على توسيع دائرة الوعي العام للدور الحاسم للتعاونيات في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتمكين وتعزيز قدرات التعاونيات في الريادة والتوسع والابتكار، وتطوير وتعزيز الإطار التشريعي لتوفير بيئة قانونية محفّزة لازدهار التعاونيات، وغرس قيم القيادة الهادفة والمسؤولة عبر استقطاب الجيل الشاب للمشاركة الفاعلة في بناء النسيج التعاوني الوطني والعالمي.
ولنتذكر أن التعاونيات ليست فقط مؤسسات اقتصادية، بل هي منظومات متكاملة تُجسّد القيم الإنسانية العليا، وتُعزز المشاركة المجتمعية، وتُكرّس العدالة كحق لا كامتياز، فمن خلال قيم التعاون، والتكافل، والمساواة، يمكننا بناء عالمٍ أكثر عدلًا واستدامة.
إننا أمام فرصة لا تقدّر بثمن: فرصة لتحويل المبادئ إلى أفعال، ولتعزيز نسيج وطني وعالمي أكثر توازنًا وإنصافًا، لذا تقع علينا جميعًا مسؤولية خوض هذا المسار، والانخراط في دعم التعاونيات، سواء كمواطنين، أو كصانعي سياسات، أو كأفراد في مجتمع مدني فاعل ومتفاعل.