نبض البلد -
حاتم النعيمات
في الوقت الذي تقترب فيه مسارات التفاوض من رسم معالم اتفاق تهدئة طويل الأمد في قد تكون مقدمة لوقف كامل لحرب غزة، تتكشّف التناقضات في الرؤى بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
الضغوط الأمريكية باتت أكثر جدية في ملف الهدنة، ويبدو أن ترامب قد وجد "التخريجة" المناسبة لكل من نتنياهو وحماس، حيث عبّر الرجل عن لومه للإسرائيلين على سعيهم لمحاكمة نتنياهو على قضايا عالقة منذ ما قبل الحرب واصفًا محاكمة نتنياهو بأنها "مطاردة ساحرات" وطالب بإلغائها فورًا أو منحه عفوًا، وهدد بشكل غير مباشر بوقف المعونة العسكرية الأمريكية إذا استمرت المحاكمة حسبما أفاد موقع (اكسيوس). أما حماس، فحصلت على قناة تفاوضية خاصة مع الولايات المتحدة مكنتها من الحصول على ضمانات بعدم المساس بقادتها بعد انتهاء الحرب.
من جانب آخر، لا أعتقد أن الليونة غير المعتادة التي ظهرت على سلوك حركة حماس مؤخرًا ناتجة عن تبدُّل ذاتي في توجهات الحركة، أو صحوة ضمير للكارثة التي حلّت بأهل القطاع، القصة ببساطة أن إيران شعرت بجدية الولايات المتحدة وبسهولة اختراقها من قبل إسرائيل فتنازلت عن تشددها السابق فانعكس على موقف حماس؛ لأن المشهد في غزة لم يتغير فيه شيء منذ أشهر ليستدعي هذه الليونة، لكن الإقليم شهد حرب الـ 12 يوم على إيران الذي جسّد تغيرًا حادًا أجبر طهران على إعادة حساباتها.
على صعيد النفوذ الخارجي الإيراني، فلم يبقى لطهران أذرع فاعلة سوى الحوثي الذي ربط إيقاف عملياته ضد إسرائيل بوقف الحرب على غزة، وفي حال انتهت الحرب على القطاع فإن ذلك يعني تحييد ورقة الحوثي الذي وقّع اتفاقية منفصلة مع الولايات المتحدة لإيقاف العمليات ضد السفن في باب المندب. إذن توقيع حماس على الهدنة (أو انهاء الحرب) قد يعني فعليًا إنتهاء أهم مشروع الأذرع الإيراني، وهذا يثبت أن هذه الأذرع لم تكن يومًا إلا لتحسين شروط إيران التفاوضية في ملفها النووي، فهذه الأذرع بدأت تتلاشى بمجرّد ما أدركت إيران أنها لن تحصل على النووي.
منذ عقود والولايات المتحدة تستخدم نهجًا يبدو للبعض متناقضًا؛ إذ تضغط على إيران بالعقوبات، لكنها في الوقت ذاته تُبقي الباب مفتوحًا للحوار. وهذا بالطبع ليس خيارًا نابعًا من خوف الولايات المتحدة على إيران، بل نابع من قناعة استراتيجية مفادها أن تفكيك إيران يعني إشعال سلسلة من الانهيارات الأمنية في الخليج وآسيا الوسطى، وهذا يهدد مصالح واشنطن، ويفتح المجال لتكرار نموذج العراق بعد 2003. ببساطة، أمريكا تريد إيران دولة موحدة، لكنها مطيعة. دولة تبقى لضمان استقرار محيطها، لكنها لا تملك حرية التحرك خارج الإيقاع الأمريكي.
إسرائيل، على العكس، ترى في إيران منافس خطير على نفوذها فق المنطقة. ومن هنا، فإن سياستها لا تتمحور حول "تعديل السلوك”، بل إلى رغبة واضحة بتفكيك الدولة الإيرانية نفسها عبر كشفها استراتيجيًا وعسكريًا وضرب مفاصل قوتها الداخلية. وليس من قبيل المصادفة أنه كلما اقتربت أمريكا من تفاهم مع إيران، رفعت إسرائيل وتيرة ضرباتها في سوريا ولبنان والعراق وفي طهران نفسها؛ فتل أبيب تدرك أن أي مكاسب تفاوضية لإيران تعني تمكينها مرة أخرى.
إيران، التي تلقت ضربات دقيقة على منشآتها النووية والاستراتيجية، فهمت الرسالة الأمريكية – الإسرائيلية بشكل واضح: لا خطوط حمراء إذا تجاوزت طهران حدود التوازن. ومن هذا المنطلق، بدأت طهران تُعيد ضبط علاقاتها على وقع صراعات عميقة بين الاصلاحيين والمحافظين في إيران، وخلص هذا الصراع إلى الانكفاء إلى الداخل، وكان لذلك أثر مباشر على سلوك حماس في ملف التفاوض.
الذين يقرأون المشهد بعين ناقدة يدركون -دون جهد كبير- أن نتنياهو ابتز العالم والإدارة الأمريكية بعدوان تم "إطالته" عمدًا (لا أريد الحديث عن ظروف إشعاله من البداية) لتحقيق مكاسب متعددة أهمها الهروب من المحاكمة ودخول التاريخ من أوسع أبوابه في الذهنية الإسرائيلية، أما الذين ما زالوا يعتقدون بالشعارات فأولئك هم الوقود الذي يمكن استخدامه بشكل سهل كلما أرادت دولة إقليمية ما تنفيذ مشاريعها في المنطقة.
لا بد من جردة حساب على مستوى فلسطيني داخلي وعلى مستوى المنظومة العربية وذلك لمواجهة إسرائيل ذات أنا متورمة ولإنشاء منظومة عربية قادرة على خلق توازن على مستوى العلاقات الخارجية للدول، وعلى مستوى معالجة ما تم تسميمه من الرأي العام العربي طوال عقود. التخريجات الأمريكية شملت الجميع لكنها لم تشملنا كمنظومة عربية أمام واقع هذه المنطقة المضطرب، لذلك نحتاج اليوم للفعل والمبادرة لا الانتظار.