نبض البلد - نزاع في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب
المحامية هبة أبو وردة
منذ أن سقطت "ليتل بوي" على هيروشيما، سقط معها مفهوم الإنسان عن نفسهم، وصعدت صراعات الحق في تمثيل السماء؛ حيث أن الإنقلاب الرمزي الذي حدث في الوعي البشري، نتيجة لما تزامن معها من مشاهدات سجلت لأولى مرة من "الأطباق الطائرة" في حادثة روزويل، وما تزامن معها من اشتداد الحرب الباردة، تصاعد سباق التسلّح، تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركية وإنتاج عشرات الأفلام الأمريكية عن الكائنات الفضائية، مما جعل الربط بين امتلاك النووي وامتلاك المفاتيح بين الفناء والبقاء.
وهكذا خرجت الحرب من الأفقية والعالم الواقعي، ودخلت في النزاع العمودي في الغيب وعلى الغيب وبإسم الغيب، حتى وصلنا إلى الصراع الإيراني الأمريكي، حيث إيران تقاتل لتمهيد الطريق لظهور "الإمام"، وإسرائيل تقاتل لحماية الدولة التي تعتبرها أول ضوء لفجر "الخلاص"، وبين الدعاء والشيفرة، الشوفار والمسبحة، تتقاطع الأسطورة بالتكنولوجيا، والطقس بالعقيدة، والرمز بالسلاح، في قلب معركة يتنصر بها من يملك الدليل السماء معه وأن مركبة الخلاص هبطت في ميدانه.
في قلب المرجعية العقائدية الإيرانية، وتحديدا ضمن المذهب الإثني عشري، يتمركز إيمان راسخ بوجود الإمام "الغائب الحاضر"، الذي يعيش في الغيب ويتابع العالم، إلى حين ظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا، هذا البعد الغيبي الذي يمثل جوهرا بنيويا للفكر الديني الشيعي، تمدد مع تأسيس الجمهورية الإسلامية حتى أصبح حجر الزاوية في التصور السياسي والأمني والثقافي الإيراني، وبات حضور الجن، العوالم غير المرئية والكرامات الخارقة، مكثفا في خطابات القادة، خاصة في المؤسسة العسكرية التي تتعامل معها على أنها بعد حقيقي وفعال لفهم الواقع وصناعة القرار.
الإمام الغائب، حسب الفقه الشيعي التقليدي، في حالة غيبة كبرى لا يرى فيها، إلا أن المزاعم تقول أنه يظهر في الرؤى والمنامات، ليأمر بالمقاومة تارة، ويزف البشرى بالنصر تارة أخرى، مما حول إنتظار المهدي من حالة غيبية كبرى متروكة للمستقبل، إلى حركة سياسية نشطة، بهدف تأطير المعركة السياسية أو العسكرية لتبدو وكأنها معركة بين الظلام والنور، تتجاوز المنطق البشري إلى مشيئة الغيب، وجعل النظام السياسي الإيراني "نظام تمهيد"، وأصبحت ولاية الفقيه نيابة مباشرة عن المعصوم؛ أي أنها تسعى عبر أدوات الدولة والعسكر إلى تسهيل عودة الإمام وتهيئة المسرح الكوني لظهور الإمام.
من قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، الذي يردد أسمه على أنه رجلا على تماس مع عالم الغيب، وتروى عنه قصص وحكايات تتجاوز حدود الطبيعة، إلى الحرس الثوري أصبح يتبنى منظومة فكرية واضحة تحت عنوان "التمهيد للظهور"، خرجت هذه المعتقدات من حدود الرمزية، ودخلت العقيدة الأمنية من واسع أبوابها، حيث باتت تربط بعض العمليات العسكرية والسياسية بما يعتبر "واجبا غيبيا"، مدفوعا بإشارات غير مرئية؛ أي أن القرار السياسي الإيراني لا يتخذ بعقلية الدولة فقط، إنما بتوجيهات روحية، ورؤى ماورائية يرونها من السماء احيانا.
وفي ذات السياق، جامع جمكران في قم، والذي يمثل حجر الأساس لهذا البعد العقائدي، أصبح من أبرز المزارات المقدسة المرتبطة بالإمام الغائب، وتنسب إليه خوارق وكرامات، وتزعم بعض القيادات الإيرانية وقوع لقاءات فعلية متعددة بين المرشد الأعلى علي خامنئي والإمام، في سرداب هذا المسجد، حيث قيل إن المرشد اجتمع به ثلاث عشرة مرة وطلب منه النصر لحسن نصر الله في حربه مع إسرائيل، كما ادعى آية الله مكارم شيرازي أن سر نجاحات خامنئي هو علاقته الخاصة بالمهدي الذي "يعينه في إدارة البلاد".
على الرغم أن الفقه الشيعي التقليدي ينفي إمكانية رؤية المهدي في زمن الغيبة، فإن هذه المزاعم توظف ببراعة لترسيخ قداسة القرار السياسي، وقطع الطريق أمام أي نقاش دنيوي أو معارضة عقلانية، لاسيما في توظف الخطابات الإعلامية الإيرانية، أن "الغيب لاستجلاب الهيبة وتكثيف المشروعية"، حيث تظهر في التقارير الرسمية روايات عن طائرات عدو تعطلت فجأة "بدعاء المجاهدين"، و مشاهد عن "نور فوق الجبهة" في لحظة عصيبة، مما يضفي على السياسات الإيرانية بعدا غيبيا مباشرا.
بلغ هذا الاستثمار ذروته مع خروج روايات من داخل بنية النظام ذاته، في الحرب الإيرانية العراقية، وما تلاها من حروب، حيث تم الترويج إليها على أنها محطات لإحياء الأسطورة، تحت شعار "كل يوم هو عاشوراء، وكل أرض هي كربلاء"؛ لتحويل الجبهة إلى امتداد لمعركة الإمام الحسين، ولكي يشعر كل مجاهد بأنه يسير على خطى الشهداء المقدسين، وبهذا تشحذ المعركة الهمم، ويطلب من الفقراء أن يصبروا على العوز، ومن المظلومين أن يتحملوا؛ لأن العدالة ستنزل من السماء حين يظهر الإمام، على هذه الأرض التي ملئت ظلما وجورا.
الأبعد من ذلك كان في العقيدة الغيبية للحرب السورية، حيث وظفت العديد من الروايات الشيعية لتفسير الصراع باعتباره أحد "علامات الظهور"، وتحولت سوريا إلى "مسرح قدري"، وكل العدو هو معيق لتحقق الخلاص الإلهي المنتظر، وعليه فإنها أعادت تعريف الجهاد الإسلامي، على أنها تعبيد الطريق لظهور الإمام، وكل مسيرة، صاروخ، طلقة ودم سائل هو نقطة ضوء في هذا المسار، الأمر الذي جعل الشباب الذين يزج بهم في ساحات القتال يرون أنفسهم طلائع "جيش الإمام"، مما حول السياسة إلى واجب غيبي، ووسيلة لتهيئة الأرض للغيب الأعلى؛ فمن يعارض الجمهورية الإسلامية، إنما يعارض الإمام المهدي نفسه، ومن يرفض سياسة خامنئي، إنما يرفض توجيه المعصوم.
على الصعيد الآخر إسرائيل، صاحبة التجذر المرجعي الغيبي في نصوص التوراة والتلمود، حيث تمتلئ أسفار العهد القديم بالإشارات إلى مركبات نارية طائرة، كما في قصة صعود النبي إيليا إلى السماء، والتي أعيد تفسيرها في ضوء الحداثة التكنولوجية لتقرأ بوصفها رموزا عن تقنيات خارقة أو تواصل مع كيانات فضائية، هذا التأويل خرج من دائرة الحاخامات، ودخل في المادة إعلامية بتكرار دائم، يتردد صداه في أفلام الخيال العلمي الإسرائيلية التي تتناول "الاختطاف الفضائي"، "الوعي الكوني" و"العقل الكوني اليهودي"، وكأن إسرائيل تجربة ماورائية ممهدة لنهاية الزمان.
الصهيونية السياسية، وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، نشأت كحركة علمانية، فإنها وظفت ببراعة الميثولوجيا الدينية اليهودية لتضفي على نفسها شرعية روحانية، جوهرها عقيدة الاصطفاء، الإيمان بأن اليهود هم شعب الله المختار وإقامة الدولة الإسرائيلية هو تحقيق لوعد إلهي خالد للورثة الشرعيين "لأرض الميعاد"، بدأت من لحظة غيبية انصهرت فيها الأسطورة بالنار، حين تسلم الكيان القدس، وصعد الحاخام غورين إلى حائط المبكى، ونفخ في البوق، ليعلن العودة كمعجزة إلهية.
أما في الجانب الغامض من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، فتعمل وحدات "أمان" و"الموساد"، على تتبع كل ما يشتبه أنه ظاهرة خارقة، كالرؤية عن بعد، التجارب فوق الحسية والاتصال بعوالم ذكية، وقد كشفت بعض الوثائق التي تم تسريبها عن برامج استكشافية تربط بين العقل البشري والطاقة والرموز الكونية، ولا تنفصل التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية عن هذا البعد الغيبي؛ حيث إن هناك وحدات تروج لنفسها بوصفها "كلية نبوءات رقمية"، تشارك في مشاريع ذات طابع رمزي مثل "شعاع داوود"، أو تطوير شيفرات تتداخل فيها الأسماء المقدسة مع الذكاء الاصطناعي، وقد تكرست هذه المقاربة في عقل الدولة، كاحتمال استراتيجي قابل للاستثمار.
الدبابة الإسرائيلية الأبرز، والتي تم تسميتها "ميركافا، هي اقتباس مباشر من رؤيا إيليا، والمركبة النارية التي حملته إلى السماء عادت على هيئة دبابة، كما أن الصواريخ الباليستية "أريحا"، تيمنا بمدينة أريحا التي سقطت بمعجزة، ومنظومة الدفاع الصاروخي "مقلاع داوود"، هذه التسميات رغم ظاهرها العسكري، تحمل دلالات كونية، وتقدم للمجتمع الإسرائيلي كأدلة على مرافقة العناية الإلهية، والذي ربط حتى صلاة السبت بهذه الخرافات، حيث تم إدراج عبارات تصف الكيان بأنه أول بزوغ للفداء، بمعنى آخر أنه بداية الخلاص الموعود، والخطوة الأولى نحو مملكة المسيح المنتظر.
رغم الفارق الجذري بين العقيدتين، تتقاطع كل من المرجعية الشيعية الإيرانية والصهيونية الدينية الإسرائيلية، في توظيف الغيب كسلاح تعبوي، رمز شرعي ومعيار مصيري لفهم الصراع والوجود؛ بين من يعتبر النار السماوية حقا توراتيا لا يمس، دليل اصطفاء إلهي، والردع المخبأ تحت صحراء النقب ليس مجرد غموض عسكري، إنما غموض ديني مقصود، يتوج بـ"خيار شمشون" كرسالة واضحة أن "من يقترب يحرق"، وبين من يعتبره جزء من التمهيد للظهور، القنطرة التقنية ليوم "العدل المطلق"، وكل خطوة تخصيب تغلف بخطاب رمزي لولاية الفقيه، الانتظار، الحرس الثوري "جنود الغيب" والرسالة الواضحة "لا احتكار للسماء".
فالحرب بين الطرفين، في جوهرها العميق، هي معركة بين عالمين من الغيب، وما بينهما يتجاوز كونه مجرد "توازن عسكري"، فقد تحول إلى نزاع على من يحق له أن يمثل الإرادة الكونية، ومن هو المكلف بفتح أو غلق أبواب الظهور والخلاص، إسرائيل تهمس "لدينا ما لا يقال"، وإيران تصرخ "نحن أصحاب القرار الموعود"، وبذات الوقت لا تزال التقارير الأميركية للعامين ترصد تصاعدا في بلاغات الأجسام الغريبة، خصوصا فوق ساحات التجارب النووية، ولا زلنا لا ندري من الأقوى في إحتكار هذه السردية ومن صاحب هذه الصحون الدوارة في الأفق.