منصور البواريد يكتب: فلسفة الخطر المُدار، وكيف يحكم الخطر عالمنا

نبض البلد -
منصور البواريد يكتب: فلسفة الخطر المُدار، وكيف يحكم الخطر عالمنا

ليست المصائب وحدها ما يصنع الخطر، بل ترتيبه .. ما يخيف الناس ليس الموت، بل توقعه.! لهذا لم تعد الدول تخوض الحروب لتحسمها، بل لتبقيها ممكنة. صار الخطر نفسه نظامًا، لا خللًا. وما كنا نراه فوضى، تبين أنَّه شكل من أشكال الإدارة، لكنه إدارة بالخوف، وبالانتظار، وبالتهديد لا بالفعل.
ففي هذا المقال، لا أتحدث عن صواريخ تسقط، بل عن عقول تدار، عن عالمٍ يصاغ عبر احتمال الانهيار، لا عبر تحقيق الاستقرار. وهذا الفرق، هو جوهر فلسفة "الخطر المدار".

إسرائيل وإيران، في هذا السياق، ليستا إلا صورتين من صور الوظيفة نفسها، إنَّهما ليسا متصارعين على حافة هاوية بقدر ما يؤديان دورًا متشابكًا في هندسة أزمة مستمرة تنتج توازن الرعب ولا تكسره، فكل صاروخ يطلق، وكل عملية انتقامية، وتصعيد محسوب، لا يُقرب من الحسم، بل يضاعف من عمق الأزمة التي تُدار بإتقان من الخارج. إنَّها النسخة المعاصرة مما صاغه أدورنو كمنظومة تولد الخوف كشرط ضروري لاستمرار النظام، وتعمقها فلسفة دولوز عن السلطة بوصفها إعادة تدوير للاختلافات بلا نهاية حاسمة.
أما الفلسفة الثالثة التي تكشف خيوط هذا المعمار فهي فلسفة زيغمونت باومان، الذي وضع إصبعه على قلب الأزمة حين شرح أنَّ الحداثة الأمنية لم تعد تقوم على الحسم بل على السيولة الدائمة.. لم تعد الحروب تبدأ لتنتهي، بل لتذوب في أشكال أخرى من الأزمات السياسية والاقتصادية والديموغرافية والديبلوماسية، حيث يتحول الرعب إلى شبكة سائلة من التهديدات التي لا تستقر، لكنها لا تنفجر بالكامل.

أمريكا، وقد أتقنت إدارة هذه السيولة الاستراتيجية، لا تسعى لإطفاء الحريق، بل لإبقائه ضمن حرارة قابلة للضبط، فيتجسد ما تسميه مراكز القرار في واشنطن بـ"إقامة الحجة"، اي؛ ترك الأطراف تتصارع في نطاق محدود يسمح بصناعة الذريعة الدائمة للوجود العسكري والتدخل السياسي والتوسع الاقتصادي. إسرائيل تستثمر دور الضحية المحاصرة؛ إيران تغذي دور القوة الثائرة المحاصِرة؛ وبينهما يتضخم حضور واشنطن كقوة ضابطه لإيقاع الخطر، تعيد تصميمه بما يخدم مشروعها العالمي، دون أن تبلغ نقطة الثبات أو الانهيار.
لكن وسط هذا الحقل المنزلق، يظهر الأردن كحالة استثنائية لا تُقرأ بالمعايير الخطابية التقليدية. الأردن، بخطى هادئة وواثقة، يوازن بين قراءة النظام وبين حماية الذات من الانجراف خلف انفعالاته السطحية، فالقيادة الأردنية تدرك أنَّ الانحياز الأعمى لهذا المحور أو ذاك لا يصنع استقلالا، بل يزيد من قابلية التورط في لعبة الاستنزاف التي صُممت بعناية لتستهلك طاقة الإقليم كله.
الأردن لا يقف في منتصف الأزمة بوصفه متفرجا عاجزا، بل بوصفه كيانا فاهما لحدود الحركة داخل حقل ألغام معقد، يعرف متى يراقب، ومتى يتدخل دبلوماسيا، متى يوازن بين الضغوط الكبرى دون أن يتحول إلى ساحة توظيف للقوى العابرة. هذا التوازن هو جوهر القوة الأردنية الصامتة، التي تقرأ بعين فلسفة الخطر المُدار ولا تنجر خلف استفزازات الصراخ السياسي الموسمي.
بينما تنتج المنطقة خطابات النصر الزائف والخطر المصطنع، يتحرك الأردن بفلسفة الدولة العارفة بطبيعة اللعبة، إذ أنَّ السيادة اليوم لا تقاس بالشعارات بل بالقدرة على اجتياز العاصفة دون أن تكسر ، وعلى تجاوز الاختبارات دون أن تصبح أداة في يد غيره.
هكذا يحكم الخطر عالمنا، ليس عبر الانفجار، بل عبر بقائه قابلًا للاستثمار، وهكذا يخطو الأردن بثبات، لا منفعلًا باندفاعات اللحظة، بل متقنًا لفن البقاء كفاعل مستقل في زمن السيادة المعقدة.